تفوقٌ خلف الزجاج: حين تُجمّل المأساة بأرقام النمو

في زمن يُقاس فيه التفوق بالحسابات البنكية، وترتيب الجيوش، وحجم الناتج المحلي، أصبحت الأمم تُصنَّف على الورق لا في الضمير، وتُحتفى نماذجها الناجحة على شاشات العالم بينما تعيش داخلها مآسي مسكوتٌ عنها... مآسٍ لو حدثت في بلاد العرب، لقامت الدنيا ولم تقعد.
ولأننا نُطالب دائمًا بجلد الذات العربية، لا بد أن نطالب بالعدل في تقييم الآخرين. فالهند، واليابان، وإيران، وتركيا، وغيرها من الأمم التي تُعرض كنماذج صاعدة أو ناجحة، لا تسير بالضرورة نحو النهوض الحقيقي، بل تسير أحيانًا بثبات نحو هاوية مغطاة بزجاج لامع.


الهند: ديمقراطية فوق خرائط الانقسام

يقال إنها أكبر ديمقراطية في العالم، ويُحتفى بنموها الاقتصادي وتعدد ثقافاتها، لكن ما يُخفى عن المشهد هو الوجه الحقيقي لأمة لا تزال تعاني من عمق الانقسام الطبقي والديني والثقافي:

  • مجتمع طائفي متناحر، تنخره الكراهية الدينية والعنصرية الطبقية.
  • أكثر من ألف طائفة وديانة ومذهب، بعضها لا يزال يُمارس الطقوس البدائية وعبادة الأحجار والبقر وحتى البشر.
  • تفجيرات، اغتصابات جماعية، وجرائم شرف تُرتكب تحت مرأى القانون.
  • فقر مدقع يُجاور أبراج التقنية، ومليارات تُضخ في التسليح بينما الأطفال ينامون في الشوارع.

الهند تُباع كصورة تنموية جذابة، لكنها في الحقيقة دولة مفككة تُدار بالمصالح الغربية، وتحكمها نخب قومية هندوسية تعيد تشكيل الهويّة الوطنية على أنقاض الأقليات.


اليابان: بشر مصنوعون كالآلات

حين تُذكر اليابان، يُقال إنها معجزة الانضباط، والنجاح التكنولوجي، والارتقاء دون موارد.
لكن اليابان — تحت عدسة أعمق — تخرج كواحدة من أكثر الأمم فقرًا في المعنى:

  • أعلى معدلات الانتحار في العالم.
  • نسبة مواليد شبه منعدمة، وعزوف عن الزواج والعلاقات الإنسانية.
  • جيل كامل يعيش في عزلة اجتماعية قسرية (الهيكيكوموري).
  • مجتمع يعبد الوظيفة والإنتاج ويكفر بالراحة والروح.

نجحت اليابان في تصنيع كل شيء، لكنها فشلت في المحافظة على الإنسان.
فالآلة تغلبت على الروح، والانضباط صار قيدًا، حتى تحوّل المواطن الياباني إلى ترس في ماكينة عملاقة، لا يُسمع فيها صوته، ولا يُرى فيها وجهه.


إيران: ثورة بلا حرية

لطالما رُوّج لإيران بوصفها دولة "ممانعة"، تقف في وجه أمريكا وإسرائيل، وتمثل نموذجًا دينيًا خاصًا.
لكن الحقيقة أن المشروع الإيراني ليس إلا غلافًا سلطويًا طائفيًا لأمة فُقدت هويتها:

  • تقديس للأشخاص باسم الدين، وتحويل البشر إلى وسائط بين العبد وربه.
  • قمع داخلي للأقليات، وقهر للحريات، وتحكم مطلق باسم "الولي الفقيه".
  • اقتصاد متضعضع، وشباب محبط، ومجتمع تتآكله الهجرة والانفصال الروحي.

إيران اليوم دولة خُلقَت على عين الغرب، ثم تمردت لتبني مشروعًا خاصًا... لكنه مشروع يستنسخ نفس القمع، ويستبدل الطاغية بالمعصوم، ويُلبس الاستبداد عباءةً مذهبية.


تركيا والترك: بين هوية ضائعة وتبعيات متوارثة

تركيا الحديثة، رغم مشاريعها، تعاني من أزمة هوية كبرى: بين الإرث العثماني الذي جرى تحقيره، والمشروع الكمالي الذي مزق الروح، ثم العودة المرتبكة إلى الدين بوصفه ورقة سياسية.

أما الجمهوريات التركية الأخرى — من أذربيجان إلى أوزبكستان — فهي أمم مشتتة، أغلبها ما زال واقعًا تحت الهيمنة الروسية أو الصينية أو الغربية.
لا مشروع جامع، لا لسان مشترك، ولا ذاكرة ثقافية موحدة، بل مجرد خرائط تم تفصيلها في مختبرات الجغرافيا السياسية.


لماذا العرب إذًا تحت المجهر؟

رغم كل هذا، لا يُسلّط الضوء على تلك التناقضات، بل يُكثّف على العرب: لماذا تخلف العرب؟ أين حضارة العرب؟ لماذا لا يصنعون، لا يفكرون، لا يتطورون؟
والجواب هنا ليس تبريرًا، بل ملاحظة تحليلية:

لأن العرب وحدهم كانوا حملة مشروع عالمي تحرري باسم الإسلام،
وحين تخلوا عن هذا المشروع، سقطوا في حضيض بلا معنى.
بينما سائر الأمم لم يُنتظر منها أكثر من أن تبني وتنتج وتستهلك.

ولذلك، فالانتكاسة عند العرب ليست مادية فقط، بل روحية ورسالية،
وهم لا يعودون إلى موقعهم إلا إذا عادوا إلى فكرة حمل المشروع من جديد...
لا كعرق، بل كأمة فكرية إنسانية لها رسالة تتجاوز الإنتاجية إلى تحرير الإنسان.


الخلاصة: ليس كل بريق تفوقًا

تفوق الأمم لا يُقاس بما تصنعه، بل بمن تصنعه.

  • الهند صنعت شقوقًا عميقة خلف صور النمو.
  • اليابان صنعت إنسانًا مكبوتًا خلف بريق الانضباط.
  • إيران صنعت ولاءً أعمى باسم الطهارة.
  • تركيا صنعت ازدواجية لا تزال تمزقها.

أما العرب، فرغم خيباتهم، لا يزال فيهم شيء لم يُصنع:
القدرة على حمل المعنى من جديد، إن وجد من يستخرجه.
فهم ليسوا اليوم "أمة متفوقة" ولا حتى "نموذجًا ناجحًا"، لكنهم ما زالوا الأمة الوحيدة التي يُنتظر منها مشروع رسالي لا مادي، إن بعثت.

أحدث أقدم
🏠