مكملة حضارات باقية: الحضارة القادمة: حين تلتقي الرسالة بالإنسان من جديد

الحضارات لا تُورث، ولا تُصنع على عجل، ولا تنهض لأن قومًا قرروا أن يتفوقوا. بل تنهض حين يلتقي الإنسان بالمعنى، وحين تتحوّل الكلمة إلى حياة، وحين تُبعث الرسالة لا من الكتب، بل من الوجدان. 
لقد سقطت الحضارة الإسلامية لأنها فُصلت عن هذا اللقاء المقدّس. ولم تُبعث لأن المقلّدين انشغلوا بإحياء الجدران لا ببناء الإنسان. 
لكن السؤال لم يزل حيًا: 
هل يمكن أن تُبعث الحضارة من جديد؟ 
وهل يمكن أن تلتقي الرسالة بالإنسان مرّة أخرى؟

 

من زمن الخراب... يبدأ البناء

الحضارات العظيمة لا تُولد في زمن الرخاء، بل في لحظات السقوط الكلي.
في الفجوة بين الحيرة والبحث، بين الضياع والرجاء، هناك يولد السؤال الحقيقي:

"من نحن؟ ولماذا نحن؟ وماذا نفعل هنا؟"

حين سقطت الجاهلية، لم تكن الأرض تُنذر بحضارة،
كان التخلف، وأد البنات، عبادة الأصنام، وتمزق القبائل...
ومع ذلك، هناك، نزل النور.
وهناك، وُلد الإنسان من جديد برسالة.

ولهذا، لا يجب أن نخجل من لحظتنا الحضارية الراهنة.
بل ينبغي أن نقرأها كما تُقرأ صفحة البداية:
بجرأة، وتأمّل، واستعداد لتجاوز السطور المظلمة.


الرسالة لا تموت... لكننا غبنا عنها

الرسالة لا تموت، لأنها ليست من الأرض.
إنها الكلمة التي أوحى بها الله لتعيد صياغة الإنسان، وتحرّره من عبادة الهوى والبشر والحجر.

لكن ما مات هو حضورها فينا.
غابت عن مؤسساتنا، وعن أنظمتنا، وعن وعينا.
حتى صرنا نستنجد بها في الخطاب، ونستبعدها من القرار.

ولهذا، لن تبدأ الحضارة القادمة من النخب ولا من السلاطين،
بل من الإنسان الذي يُعيد اكتشاف رسالته الفردية، فيحملها في قلبه لا على لسانه فقط.


حضارة المعنى لا المادة

الحضارة القادمة لن تُقاس بحجم ناطحات السحاب، ولا بعدد الأقمار الصناعية،
بل بعمق الإنسان الذي يعيش فيها:
هل هو حرّ؟
هل هو عادل؟
هل هو عاقل؟
هل يرى في الحياة معنى؟
هل يفهم لماذا خُلق؟ ولماذا يُحب؟ ولماذا يموت؟

حضارة الرسالة لا تعني العودة إلى الماضي،
بل تعني نقل المعنى النبوي إلى زمان جديد، يُجيب عن أسئلة الإنسان المعاصر بلغة هذا العصر.


حين يتحول الفرد إلى مشروع حضاري

المعادلة بسيطة، لكنها صعبة:

الحضارة تبدأ حين يتحول الإنسان العادي إلى مشروع استئناف.

لا نحتاج قادة عظامًا، بقدر ما نحتاج أناسا بسطاء يحملون الرسالة في سلوكهم:

  • في الصدق بالبيع،
  • في العدل في الحكم،
  • في الرحمة في التعليم،
  • في الجرأة على قول الحق،
  • في رفض الظلم ولو بلغة هادئة.

هؤلاء لا يُرَون في الأخبار، لكنهم وقود التاريخ القادم.


والآن... من نكون؟

نحن لا ننتظر معجزة، بل ننتظر عودة الإنسان إلى رسالته.
لا نطلب من الأمة أن "تستعيد الخلافة"، بل أن تستعيد ذاتها.
أن تعرف من هي، ولماذا خُلقت، وما الرسالة التي حُملت بها، ولماذا سقطت، وكيف تقوم.

حين يحصل هذا اللقاء:
بين الإنسان والرسالة،
بين الفكرة والسلوك،
بين الإيمان والعمل...
تولد الحضارة.

وإن لم تولد على أيدينا، فسوف تولد ذات يوم،
لأن الكلمة التي بُعثت في مكة، لا تزال حية… تنتظر فقط أن تجد من يحملها بحق.


سلسلة: الحضارات الباقية: كيف تدفن الشعوب في التاريخ وتنجو الافكار

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.