
وكيف نجت من استعمار الغرب وغزو أمريكا، ثم نهضت كقوة صناعية عظمى؟
لم تكن اليابان إمبراطورية توسعية كالصين أو فارس، ولم تكن مركز حضارة عالمية كالروم أو المسلمين.
لكنها، على جزيرة صغيرة، بنت هوية صلبة وصلبة، قاومت الإغراق الثقافي، ونجَت من كل محاولات التذويب، وخرجت من رماد القنابل لتصنع عصرها.
كيف صمدت حضارة جزيرية بلا إمبراطورية وسط طوفان العالم؟
في مسيرة اليابان، لا نجد حضارة قائمة على الفتح، بل على الذاكرة والانضباط والخصوصية.
دعنا نتأمل محطات هذا الصمود الفريد.
1. البدايات: من عزلة البحر إلى بناء الذات
بدأت اليابان كجزر متفرقة تعيش على الزراعة، والصيد، والمجتمعات القَبَلية.
لكن مع دخول النفوذ الثقافي الصيني في القرن السادس، بدأت تتبلور فيها ملامح دولة مركزية، مع نظام إمبراطوري وديانة محلية (الشنتو) ممزوجة بالبوذية.
ورغم التشابه مع الصين، احتفظت اليابان دائمًا بهوية جزيرية مستقلة، تراكمت مع الزمن.
2. نظام الساموراي: المجتمع كجيش
من القرن 12 وحتى القرن 19، حكمت اليابان طبقة الشوغون (قادة عسكريون)، في نظام إقطاعي صارم، محروس بمقاتلين نخبويين يُدعون الساموراي.
هذا النظام:
- رسّخ قيم الطاعة والانضباط والولاء.
- جعل المجتمع كله يعيش كأنّه في معسكر كبير.
- رسّخ التقاليد والثقافة كوسيلة مقاومة داخلية.
3. قرون العزلة: حين أُغلقت أبواب البحر
من القرن 17، فرضت اليابان على نفسها سياسة العزلة التامة (ساكوكو)، ومنعت الأجانب من دخول البلاد، ومنعت اليابانيين من مغادرتها.
ولمدة قرنين ونصف، لم تتأثر اليابان كثيرًا بالتطورات العالمية.
لكن هذا الجمود انتهى فجأة عام 1853، حين وصلت سفن البحرية الأمريكية بقوة السلاح، وأجبرت اليابان على الانفتاح.
4. صدمة الحداثة: بين الاستسلام والتجاوز
الصراع كان وجوديًا: إما أن تُبتلع اليابان كما ابتُلعت الصين والهند، أو تُعيد تعريف ذاتها.
فجاءت ثورة ميجي (1868)، وهي أشبه بـ"ولادة ثانية لليابان":
- ألغت نظام الشوغونية.
- تبنّت مؤسسات الدولة الحديثة.
- استوردت العلوم الغربية، وأبقت على الروح اليابانية.
هذه الثورة أنقذت اليابان من الاستعمار، وجعلتها أول دولة غير غربية تصعد كقوة عالمية في العصر الحديث.
5. اليابان الإمبراطورية: الوجه القاسي من التاريخ
في أوائل القرن 20، بدأت اليابان تسلك مسارًا إمبرياليًا شبيهًا بالغرب:
- احتلت كوريا وتايوان.
- غزت الصين.
- دخلت الحرب العالمية الثانية ضد أمريكا وبريطانيا.
لكن النهاية كانت مأساوية: مدينتان دُمّرتا بالقنابل النووية (هيروشيما وناغازاكي)، واستسلمت اليابان سنة 1945.
6. من الرماد إلى القمة: معجزة ما بعد الحرب
بعد الهزيمة، وبدل الانهيار، اختارت اليابان طريقًا ثالثًا:
- تخلّت عن الجيش، وركّزت على التعليم والتقنية والانضباط.
- بنت نموذجًا اقتصاديًا خاصًا، قائمًا على الجودة، والعمل الجماعي، والقيم التقليدية.
- بحلول الثمانينات، أصبحت ثاني أقوى اقتصاد في العالم.
نجحت اليابان لأنها لم تُقلّد الغرب بالكامل، بل أخذت أدواته، وأبقت روحها القديمة تعمل في الخلفية.
7. سرّ البقاء الياباني: عقلية الأمة لا الدولة
اليابان بقيت لأنها:
- أمة تحيا بالتقاليد لا بالنصوص.
- صاغت لنفسها هوية مرنة: شرقية الملامح، حديثة الأدوات.
- حافظت على لغتها، وطقوسها، وأخلاقها، رغم كل التحديث.
- امتصّت الغرب، دون أن تسمح له بابتلاعها.
لم يكن عند اليابان قرآن أو خلافة أو رسالة سماوية، لكنها امتلكت قداسة الوطن، وقداسة الشرف، وقداسة المجتمع.
وكلها اشتغلت كدين دنيوي يحمي الهوية.
خلاصة: اليابان لم تنتصر لأنها لم تسقط في اختبار الذات
لم تعش اليابان صراعًا داخليًا في معنى "من نحن؟"، كما حدث للعرب أو الأتراك أو الهنود.
كانت تعرف دائمًا: من تكون، وماذا تريد أن تبقى.
وحتى حين اضطرت لتغيير كل شيء، لم تُغيّر نفسها.
سلسلة: الحضارات الباقية: كيف تدفن الشعوب في التاريخ وتنجو الافكار