
لماذا؟ .. هل كانت حضارة لحظة؟ أم أنها كانت مشروعًا أعظم من أن يُستنسخ خارج سياقه؟
فلنقترب أكثر من السؤال الحرج: لماذا فشلت كل محاولات النسخ، والاستلهام، والاستعادة؟
حضارة لا تُصنَع... بل تُستَودَع
الحضارة الإسلامية لم تكن تراكمًا ماديًا، بل كانت ثمرة إيمان تحوّل إلى سلوك،
ومعنى صار قانونًا، ووحيًا صار عقلًا يُنتج ويُهذّب ويُقيم العدل.
ولهذا، كانت حضارةً لا تُصنَع كما تُصنَع المصانع،
بل تُستَودَع في القلوب، وتُزرَع في النفوس، وتُنبت حين تلتقي الفكرة بالهمة، والحق بالقوة.
كل من حاول تقليدها عبر التاريخ — من الاستشراق الأوروبي إلى الحركات القومية الإسلامية — سقط في فخ الظاهر:
- ظنّوا أن عظمة الحضارة كانت في قصورها لا في قلوب رعاتها.
- حسبوا أن سرها في فقهها لا في قيمها.
- قلدوا عمارتها، ونسخوا مناهجها، دون أن يحملوا روحها.
حضارة لم تكن "عربية" ولا "إسلاموية"
الحضارة الإسلامية لم تكن مشروع العرب، ولا مشروع دولة الخلافة كسلطة،
بل كانت مشروع الإنسان المؤمن حين يُفعّل نصوص الوحي في الواقع.
وقد كان من صانعيها:
- العربي والتركماني،
- الفارسي والأمازيغي،
- الأفريقي والهندي،
- وحتى الصيني والأناضولي.
لم تكن حضارة اللون الواحد، بل كانت حضارة الكلمة الواحدة.
ولهذا، لم يكن سقوط مركزها يعني سقوطها... لكن حين سقطت الرسالة من النفوس، سقطت الحضارة كلها، ولو بقيت المآذن والمخطوطات والقباب.
الوحي: الروح التي لا تُستعار
الحضارة الإسلامية قامت على وحي، لا على فلسفة أرضية.
الوحي لا يُستعار من الخارج، ولا يُستنسخ بدون إيمانٍ داخلي صادق،
ولهذا سقطت كل محاولات "الإسلام الحداثي"، أو "الخلافة السياسية"، أو "النهضة التقنية بروح دينية"،
لأنها كلها حاولت التوفيق بين نقيضين: الاستمداد من الغرب، والتزيّن بالإسلام.
تمامًا كما لا يمكن تركيب روح على جسد ميت،
لا يمكن بثّ الحياة في مشروعٍ فقد صلته بالسماء، ولو كان مزخرفًا بالآيات.
الحضارة ليست متحفًا... بل فعلًا متجدّدًا
من يظن أن الحضارة تُحفظ في الكتب، أو في جدران الجامعات، أو في الندوات الخطابية،
فهو يدفنها تحت التماثيل.
الحضارة الإسلامية لم تكن "ذكريات"، بل كانت فعلًا مستمرًا متجددًا،
في السوق، في المدرسة، في القضاء، في الشعر، في الحياة اليومية.
وقد ماتت يوم أصبحت ماضٍ يُدرّس، لا واقعًا يُعاش.
وما لم نُعد تحويل النص إلى حركة، والإيمان إلى عدالة، واللغة إلى فكر،
فستبقى حضارتنا عالقة في المتاحف.
من الاستنساخ إلى الاستئناف
الطريق ليس في "استنساخ" الماضي، بل في "استئناف" المسار.
لا نُعيد عبقرية ابن خلدون بتكرار نظرياته، بل بإنتاج فكر جديد يُفكك واقعنا كما فككه هو زمانه.
ولا نبني حضارة جديدة بأن نحاكي الأندلس، بل بأن نحمل ذات الروح في واقعنا المتغيّر.
وهنا الفرق بين التقليد والتجديد، بين المظهر والجوهر، بين الحنين والفعل.
خلاصة المشهد:
الحضارة الإسلامية لا تُستنسخ لأنها ليست حضارة صُنعَت، بل حضارة أُوحيَ بها ثم وُفّيَت.
ومن أراد استعادتها، فليُعد بناء الإنسان لا النظام،
وليبعث الرسالة لا الشعارات،
وليقم العدل لا الهيمنة.
حينها فقط، يمكن أن تُولد من جديد… لا كظلّ لما مضى، بل كفجرٍ لما هو آتٍ.