
في زحمة الأسماء اللامعة للحضارات القديمة، يُهمَّش أحيانًا الكنعانيون، وكأنهم ظلّ حضارة لا حضارة. لكن حين نُمعن النظر، نكتشف أن هؤلاء الساميين الأوائل كانوا جذرًا ممتدًا تحت معظم ثقافات المشرق القديم، صامتين كالأصل، عميقين كالجذور. فمن هم الكنعانيون؟
حضارة المدن الأولى
استوطن الكنعانيون بلاد الشام منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وبنوا مدنًا كأريحا، جبيل، صيدا، وصور. هذه المدن لم تكن دولًا مركزية، بل كانت كـ"مدن-دول" مستقلّة، قائمة على الزراعة والتجارة والتديّن الوثني المحلي، ومتصلة بحضارات مصر وبلاد الرافدين بوشائج اقتصادية وثقافية.
هم لم يصوغوا حضارة سياسية صارمة، لكنهم خلقوا نسيجًا حضاريًا مرنًا، يربط البر والبحر، الشرق والغرب، الناس والآلهة.
بين الفينيقيين والعبرانيين
غالبًا ما يختلط اسم الكنعانيين بالفينيقيين، لأن الفينيقيين هم بالأصل كنعانيون ساحليون تبنّوا الطابع البحري، وطوروا الأبجدية. أما العبرانيون فدخلوا على مسرح الكنعانيين لاحقًا، واحتكوا بهم في صراعات ثقافية ودينية، كما هو موثق في النصوص التوراتية التي صوّرت الكنعانيين كرمز للوثنية والانحراف.
لكن هذه الروايات، حين نقرأها نقديًا، تكشف لنا حجم التأثير الكنعاني في لغة ودين وتقاليد من جاؤوا لاحقًا، حتى من عادوهم.
إسهامات حضارية منسية
ما الذي يجعل الكنعانيين مثالًا على التفوق الحضاري؟
- هم من أوائل من أسّس فكرة المدينة-الدولة في المنطقة.
- ساهموا في تطور أول أنظمة الكتابة الأبجدية، قبل أن تُنسب لاحقًا للفينيقيين.
- لعبوا دورًا محوريًا في صناعة الخزف، وصباغ الأرجوان، والتجارة بين الحضارات.
- أثروا على ديانات لاحقة، سواء عبر الأساطير أو أسماء الآلهة أو الطقوس.
لكنهم، كبعض الأمم، اختفوا دون ضجيج، واندمجت أسماؤهم في شعوب أخرى. وبقيت بصماتهم، رغم أن الأيدي التي تركتها لم تُسجَّل.
التفوق الذي لا يُرى
ربما لم يكن الكنعانيون حضارة عسكرية، ولا إمبراطورية استعمارية، لكنهم كانوا رحمًا حضاريًا وُلِدت منه تجليات لاحقة، ونقلات فكرية كبرى.
إن تفوقهم لا يُقاس بما بنوا ثم سقط، بل بما أسسوا ثم اختفى اسمه، وظل أثره حيًا.
سلسلة: الحضارات البائدة: حين تصير الحضارات أطلالًا يتأملها اللاحقون