
رغم أن اسمها يوحي بالوحدة، إلا أن الجامعة العربية ظلّت لعقودٍ أشبه بمنتدى رسمي لإدارة التباعد لا لتجاوزه.
اجتماعات متكررة، بيانات منمقة، لكن الواقع العربي يزداد انقسامًا وتفككًا.
آلية "الإجماع"... هندسةُ شللٍ متقن
يُروّج في أدبيات الجامعة أن القرارات لا تُتخذ إلا بـ"الإجماع العربي".
لكن هذه الكلمة الساحرة ليست سوى قفل ذهبي وُضع على كل باب يُحتمل أن يُفتح نحو الفعل المشترك.
يكفي أن ترفض دولة واحدة — لأسباب سيادية، أو نزاعات حدودية، أو تبعية خارجية — حتى يُجمَّد القرار كليًا، مهما بلغت خطورته أو شعبيته.
وهكذا، يصبح الإجماع أداة تعطيل، لا وسيلة بناء.
من التنسيق إلى التدجين
الجامعة لم تُنشأ لتكون كيانًا فوقيًّا، ولم يكن مطلوبًا منها أن تكون اتحادًا فيدراليًا، ولكنها حتى في الحد الأدنى لم تنجح في:
- خلق سوق عربية موحدة رغم القرب الجغرافي والتكامل الطبيعي في الموارد.
- صياغة سياسة دفاع مشترك رغم تكرار العدوان الخارجي.
- إنتاج موقف واحد تجاه القضايا المفصلية (فلسطين، العراق، سوريا، السودان، ليبيا...).
بل تحولت إلى منصة تُدار فيها صراعات الأنظمة بلغة المجاملة، وتُمرر من خلالها التطبيع مع الاستعمار تحت عناوين "الواقعية السياسية".
القاعة التي تزيّن الفشل
قاعة الاجتماعات الكبرى في مقر الجامعة لا تخلو من الفخامة:
الأعلام مصطفّة، الميكروفونات تعمل، والكلمات موزونة، والوفود حاضرة.
لكن خلف هذه الصورة البرّاقة، تقف كواليس مفرغة من القرار الحقيقي.
القمم تنعقد في ذروة الكوارث، ثم تُصدر بيانًا ختاميًا لا يغيّر شيئًا في مجرى الوقائع.
وفي كل مرة، تعود الأنظمة لتدور في ذات الدائرة:
"نُدين بشدة"، "نؤكد على الثوابت"، "ندعو إلى ضبط النفس"...
ثم تُطوى المأساة ويُفتح ملف جديد.
الإجماع في ما لا يُغيّر شيئًا
إن أغرب ما في الجامعة العربية أنها لا تعاني من غياب الإجماع، بل من حضوره في غير موضعه.
فحين يتعلق الأمر بمواقف فارغة من أي التزام، تجد الوفود جميعًا متفقة على الإدانة، على الدعم "المبدئي"، على التأييد "الرمزي"، على التمسك بـ"الشرعية الدولية"، و"ميثاق الأمم المتحدة"، وعلى كل المفردات التي لا تُكلّف شيئًا ولا تُلزم أحدًا.
لكن حين يُطرح مشروع قرار يتطلب فعلًا ملموسًا أو موقفًا حاسمًا أو تنسيقًا حقيقيًا، يتحول الإجماع إلى لغز معقّد، ويُستحضر حينها:
- "الخصوصية السيادية لكل دولة"،
- و"حساسية التوازنات الإقليمية"،
- و"ضرورة التروّي والحياد"...
وهكذا، تتحوّل الجامعة العربية إلى آلة دقيقة تفرز نوعًا وحيدًا من التوافق: التوافق على ألا يحدث شيء.
التنظيم الذي يُطيل عمر التجزئة
مفارقة الجامعة العربية أنها وُلدت باسم "الوحدة"، لكنها أصبحت لاحقًا واحدة من أكثر المؤسسات حفاظًا على حالة التجزئة.
فبدل أن تُوحّد، تُجمّد.
وبدل أن تُمثّل الشعوب، تُجمّل سلوك الأنظمة.
وبدل أن تكون درعًا ضد التفكك، أصبحت هندسة من داخله.
هل يمكن إنقاذها؟
لا جدوى من السؤال ما دامت بنية القرار العربي محصورة في يد سلطات ترى في أي تقارب شعبي تهديدًا، وفي أي مشروع تكامل خطرًا على السيادة المطلقة.
فالجامعة ليست معطّلة لأنها فشلت في مهمتها، بل لأنها ناجحة جدًّا في مهمتها الحقيقية غير المُعلَنة: إدارة الانقسام دون أن يخرج عن السيطرة.