فارنا: المعركة التي قتل فيها الغرب نفسه

موقعة فارنا بين ملوك أوروبا والسلطان العثماني مراد الثاني

في سهلٍ بارد على مشارف البحر الأسود، حيث تلتقي الأرض بالضباب، وقفت حضارتان متواجهتين لا كأعداء فقط، بل كرمزين لنوعين من الوعي: وعيٍ يعِد ويغدر، ووعيٍ إذا وعد وفى، وإذا نُقِض العهد لم يختبئ خلف الذرائع.

كانت معركة فارنا أكثر من صدام جيوش، كانت اختبارًا للأخلاق حين تُعلَن الحروب باسم الرب، ويُنكث العهد أيضًا باسمه.

بين الصليب والهلال: من خان مَن؟

في 1444م، وقّع السلطان مراد الثاني مع ممالك أوروبا معاهدة سلام بعد انتصارات مريرة، ثم تنازل طوعًا عن الحكم لابنه محمد الصغير، في مشهد حضاري نادر لقائدٍ يختار العزلة والزهد على السلطان.

لكن ما إن ابتعد مراد، حتى اجتمع ملوك الغرب مجددًا. أغراهم الفراغ، وحرّضهم البابا، فقيل لهم:

"الأتراك أوفوا بالعهد، لكن الرب لم يوقّع المعاهدة!"

بهذا المنطق، بدأت الحملة، لا كغزو سياسي، بل كخيانة علنية لمواثيقهم.
وهكذا، انطلقت الحملة "الصليبية" الجديدة، ليس لأنها واجهت خطرًا، بل لأنها لم تحتمل عدالة الخصم ولا صعوده.

مراد يعود... لا لينتقم، بل ليُربّي

لم يعد مراد الثاني إلى العرش لأن الكرسي أغراه، بل لأن العهد كُسِر. ولأن ابنه محمد كان صغيرًا على أن يتعامل مع غربٍ يلبس ثوب الدين ويطعن من الخلف.
عاد مراد لا كفاتح، بل كقيمة، كرسالة تقول:

"من يبيع سلامه، يشتري موته."

أعاد ترتيب الصفوف، وتقدم بنفسه إلى ساحة المعركة. لم يرسل أحدًا نيابة عنه. كانت القصة عنده أكبر من الأرض: كانت قصة شرف دولة، لا صفقة تاج.

الملك الشاب الذي قتله الطموح

في الطرف الآخر، كان الشاب فلاديسلاف الثالث، ملك بولندا والمجر، بالكاد بلغ العشرين، لكنه حُمِّل راية أوروبا كلها. قيل له: "إن قتلت السلطان، سقطت الدولة."
فصدّق الرواية… واندفع.

وفي لحظة طيش بطولي، دخل بجواده عُمق الجيش العثماني. ظن أنه يُكرِّر حكايات الرومان، أو ينحت اسمه على بوابة التاريخ. لكن الأرض لا تُكافئ الخيانة، ولو باسم الشجاعة.

سقط الملك، وسقطت رأسه بين الوحل والدماء، وسقطت معه آخر أوهام الحملات الصليبية.

حين يغدر الغرب… ويخسر الغرب

لم تكن فارنا معركة انتصر فيها العثمانيون فقط، بل كانت المرآة التي انعكس فيها وجه الغرب الحقيقي.
ذلك الوجه الذي يُحدّثك عن السلام ثم يُطعنك في ظهرك، الذي يعقد الاتفاقات وهو يُهيّئ كسرها، والذي يُبرّر الخيانة باسم الرب، لكنه لا يتحمل عدالة المسلم إذا التزم بالعهد.

فارنا لم تُهزم فيها جيوش، بل انهزمت فيها الفكرة التي ادّعت تمثيل الله وهي تنقض وعدها باسمه.

على بوابة القسطنطينية... بدأ الزمن الجديد

بعد المعركة، عاد مراد إلى عزلته، وسلم الراية لمحمد الصغير. لكن فارنا لم تنتهِ هناك… كانت تمهيدًا لغدٍ مختلف.
غدٍ دخل فيه ذلك الطفل مدينة القسطنطينية بعد سنوات، فطوى صفحة الإمبراطوريات الزائفة، وفتح بابًا لحضارةٍ كانت تستحق.

وهكذا، في فارنا، لم ينتصر المسلمون بالسيف فقط، بل بالوفاء… بينما انهزم الغرب، لأنه خان نفسه قبل أن يُهزم في الميدان.

أحدث أقدم
🏠