
تفكك يوغسلافيا: الأعراق والدين في ميزان الجغرافيا السياسية
في مطلع القرن العشرين، ظهرت دولة جديدة على الخارطة الأوروبية باسم يوغسلافيا، جمعت تحت سلطتها شعوبًا متعدّدة الأعراق والأديان، توحّدوا سياسيًا لكنهم ظلّوا مختلفين ثقافيًا وتاريخيًا. هذه الدولة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، ضمّت كلاً من: الصرب، الكروات، السلوفينيين، البوسنيين، المقدونيين، والجبل الأسود، إلى جانب أقليات أخرى، أبرزها الألبان في كوسوفو.
التناقض الداخلي: أعراق وأديان متجاورة لا منسجمة
يوغسلافيا لم تكن دولة متجانسة. كانت خليطًا ديموغرافيًا يتكوّن من:
- الصرب (أرثوذكس)
- الكروات (كاثوليك)
- البوسنيين (مسلمون)
- السلوفينيين (كاثوليك)
- المقدونيين (أرثوذكس)
- الألبان (غالبيتهم مسلمون، خاصة في كوسوفو)
رغم محاولات التوحيد، ظلّ الانقسام العرقي والديني قائمًا تحت السطح. النظام الشيوعي بقيادة تيتو فرض نوعًا من التوازن بالقوة، لكنه لم يعالج الجذور الاجتماعية والسياسية للاختلاف.
الانهيار والتفكك
مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، سقط القناع عن "الوحدة اليوغسلافية".
تفككت الدولة بداية من 1991 إلى عدة جمهوريات مستقلة:
-
سلوفينيا (استقلال سلمي نسبيًا، 1991)
-
كرواتيا (حرب انفصال، 1991–1995)
-
البوسنة والهرسك (حرب أهلية طاحنة، 1992–1995)
-
مقدونيا الشمالية (استقلال سلمي، 1991)
-
الجبل الأسود (استفتاء واستقلال في 2006)
-
كوسوفو (أعلنت الاستقلال 2008، ولم تُعترف بها عالميًا بشكل كامل)
كوسوفو وألبانيا: سؤال الهوية
أغلب سكان كوسوفو هم ألبان مسلمون، لكنهم ظلوا ضمن يوغسلافيا بسبب ترتيبات سياسية وحدودية تعود للعهد العثماني ثم الحكم اليوغسلافي.
رغم التقارب العرقي والديني مع ألبانيا، لم تنضم كوسوفو إليها، بسبب:
- التعقيدات الدولية.
- معارضة صربيا وروسيا.
- رغبة المجتمع الدولي في استقرار البلقان دون تغيير مزيد من الحدود.
أما ألبانيا نفسها، فقد ظلت خارج الاتحاد اليوغسلافي، وتمسكت باستقلالها منذ أوائل القرن العشرين، وحكمها لاحقًا نظام شيوعي مغلق بقيادة أنور خوجة، الذي فصل البلاد عن المحيط الإقليمي تمامًا.
البوسنة: نموذج التعقيد
البوسنة والهرسك مثال صارخ على التعدد العرقي والديني:
- مسلمون (بوشناق)
- صرب أرثوذكس
- كروات كاثوليك
نظام الحكم في البوسنة والهرسك: دولة واحدة بثلاثة رؤوس
بعد توقيع اتفاقية دايتون عام 1995 التي أنهت الحرب الأهلية، فُرض على البوسنة والهرسك نظام سياسي معقّد وفريد من نوعه، صُمم لتلبية التوازن بين المكونات الثلاثة الأساسية: البوشناق (المسلمون)، والصرب الأرثوذكس، والكروات الكاثوليك.
الدولة مقسّمة إلى كيانين رئيسيين:
- اتحاد البوسنة والهرسك (ذو غالبية بوشناقية-كرواتية)
- جمهورية صربسكا (ذات غالبية صربية)
- تُدار الدولة بمجلس رئاسي يتكوّن من ثلاثة رؤساء: واحد من كل مكوّن عرقي، يتناوبون على رئاسة الدولة كل 8 أشهر.
- لكل كيان حكومته الخاصة، وبرلمانه، وميزانيته، مع وجود حكومة مركزية ضعيفة الصلاحيات.
هذا النظام السياسي المعقد أدّى إلى بطء شديد في اتخاذ القرارات، وتجميد العديد من الإصلاحات، إضافة إلى صراعات دائمة حول الصلاحيات والهوية، خصوصًا مع بقاء بعض القوى الصربية تطالب بالانفصال، وأخرى كرواتية تطالب بإعادة التقسيم.
وقد أدى ذلك إلى حرب أهلية دموية، ومحاولات متكررة لتقسيم الدولة على أسس طائفية، رغم الإبقاء على كيان موحّد هش بضغط دولي.
خلاصة
تفكك يوغسلافيا لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان نتيجة تراكمات تاريخية وعرقية ودينية لم تُحلّ في ظل الدولة المركزية.
ورغم الاستقلال السياسي للدول الجديدة، ما زالت آثار التداخل بين الشعوب قائمة، وما زالت بعض التوترات القومية والدينية تُذكّر بأن المنطقة لم تخرج تمامًا من ظلال الماضي.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
