
خلف لغة الأرقام والتقارير الرسمية، يتوارى واقع مختلف: الفقراء يزدادون فقرًا، والطبقة الوسطى تنكمش، والديون تتراكم في جيوب الدول والأفراد معًا.
إن ما يسمّى “النمو الاقتصادي” في الخطاب الرسمي ليس سوى وهم جماعي يُسوَّق للشعوب لتبرير استمرار النظام المالي القائم على التفاوت والديون.
الناتج المحلي... المؤشر الذي يخفي كل شيء
منذ منتصف القرن العشرين أصبح “الناتج المحلي الإجمالي” المؤشر المقدّس الذي تُقاس به صحة الاقتصاد.
لكن هذا المؤشر لا يخبرنا شيئًا عن توزيع الثروة، ولا عن جودة الحياة، ولا عن العدالة الاجتماعية.
فحين تبني دولة أبراجًا ومصانع وتبيع المزيد من السيارات والأسلحة، يرتفع الناتج المحلي — حتى لو كانت الأجور ثابتة والفقر متفاقمًا.
الناتج المحلي يقيس حركة المال، لا من يملكه.
إنه أشبه بترمومتر يسجّل سخونة السوق بينما يغفل عمّن يحترق في داخلها.
ولذلك نرى مفارقة صارخة: دولٌ تتباهى بنمو اقتصادي يفوق 5%، بينما يعيش نصف سكانها تحت خط الفقر.
نمو بلا رخاء: تضخيم الأرقام لا تحسين الحياة
النمو في صورته الحالية لا يعني بالضرورة تحسنًا في المعيشة، بل غالبًا تضخمًا في الثروة لدى الأقلية.
فكلما زاد النشاط المالي والمضاربات والأسواق العقارية، ارتفع الناتج المحلي شكليًا، لكن من دون أثر فعلي على المواطن.
وفي المقابل، فإن الإنفاق العام على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية يُعدّ في الحسابات الرسمية “تكلفة” لا “نموًا”، مما يجعل الدولة التي تُهمل الإنسان تبدو أكثر نجاحًا في المؤشرات!
بهذا المنطق المحاسبي المقلوب، يصبح الاستثمار في الإنسان عبئًا، بينما يُكافأ الاستثمار في الدين والاستهلاك.
إنها مفارقة تجعل “النمو الاقتصادي” معيارًا مضادًا للحياة، لا مؤيدًا لها.
الديون: الوقود السري للنمو الزائف
ما لا يُقال في نشرات الاقتصاد أن أغلب النمو العالمي اليوم ممّول بالدين.
فالمصانع تُبنى بالاقتراض، والدول تُموّل ميزانياتها عبر السندات، والمستهلك يعيش على بطاقات الائتمان.
الناتج يرتفع لأن الديون ترتفع، لا لأن الثروة تتضاعف.
إنه اقتصاد يُضخَّم بالأكسجين الصناعي؛ ما إن يُسحب حتى ينهار التنفس المالي برمّته.
وهكذا، حين يتباهى العالم بنسبة نمو 3%، فإن ما يعنيه ذلك فعليًا هو اتساع الفجوة بين المال الورقي والواقع المعيشي.
النظام المالي يتغذى على التوسع، لا على الاكتفاء — لذلك فالتوقف عن النمو في نظره يساوي الموت، حتى لو كان النمو نفسه انتحارًا بطيئًا.
التفاوت الطبقي: ازدهار القلة واحتراق الكثرة
خلال العقود الأخيرة، أصبح “النمو” في العالم مرادفًا لزيادة أرباح الشركات لا لرفاه الناس.
ارتفع الناتج المحلي في أميركا وأوروبا، لكن الأجور لم ترتفع بالقدر نفسه.
بل على العكس، تقلصت حصة العمال من الناتج العالمي من أكثر من 55% في الثمانينيات إلى نحو 45% اليوم.
بمعنى آخر: الاقتصاد ينمو، لكن الإنسان يتقلص.
النظام نفسه مصمم ليصبّ كل فائض في الأعلى، ثم يُقال للناس: “انظروا، لقد نما الاقتصاد!”
لكن هذا النمو ليس إلا عملية إعادة توزيع صامتة للثروة نحو الأقوى.
ولهذا لا تشعر الشعوب بما يسمّى "الازدهار"، لأن الازدهار محجوز في جداول الأسهم، لا في موائد العيش.
الإنسان الغائب عن معادلة النمو
الخطأ الجوهري في فكرة النمو هو أنها تنظر إلى الاقتصاد ككائن مستقل عن الإنسان.
تُقاس حركة المصانع لا راحة العامل، وتُحسب أرباح الشركات لا استقرار الأسر.
فما قيمة أن يرتفع الناتج إذا كانت ساعات العمل أطول، والضغوط النفسية أشد، والقدرة الشرائية أضعف؟
النمو الحقيقي هو أن يعيش الإنسان حياة كريمة بجهد معقول، لا أن يضاعف الإنتاج حتى يستهلك نفسه.
أما النمو الذي لا ينعكس على الإنسان، فهو اتساع في المسافة بين الرقم والحياة.
خاتمة: عندما يتحوّل النمو إلى قناع للأزمة
إن أكبر خدعة في النظام الاقتصادي الحديث هي جعل النمو غاية في ذاته، لا وسيلة للرخاء.
تُقاس الدول اليوم بما تضيفه إلى أرقامها، لا بما تمنحه لمواطنيها.
وحين تتوقف عن النمو تُصنَّف كدولة فاشلة، حتى لو كانت مكتفية وسعيدة.
بهذا المعنى، أصبح “النمو” عقيدة لا تُناقش، أشبه بإيمان اقتصادي جماعي يمنع التفكير في بدائل.
لكن الوعي الحقيقي يبدأ حين ندرك أن النمو بلا عدالة هو مجرد تضخم للأزمات في ثوب من الأرقام.