
النشأة.. سلام السادة لا سلام الشعوب
حين كتب ألفريد نوبل وصيته عام 1895، كانت أوروبا لا تزال في ذروة مشروعها الاستعماري. أراد الرجل، المثقل بعقدة "صانع الديناميت"، أن يُخلّد اسمه عبر جائزة تكافئ الساعين إلى السلام بين الأمم.
لكن مفهوم “الأمم” في وعي القرن التاسع عشر لم يكن يشمل الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، بل القوى المتحضّرة فقط. وهكذا وُلدت الجائزة في حضن رؤية أوروبية ضيقة للسلام: سلامٌ بين السادة، لا بين المستعبَدين والمستعبِدين.
كانت الغاية تهدئة الصراعات داخل النادي الأبيض لا إنهاء منظومة القهر العالمية. ومن هنا بدأت بذرة الانحراف الأولى: أن يُختزل السلام في غياب الحرب، لا في حضور العدالة.
الحرب الباردة.. السلام كسلاح أيديولوجي
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع انقسام العالم بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، تحوّلت الجائزة إلى أداة رمزية في الحرب الباردة.
صارت لجنة نوبل تكرّم المعارضين في المعسكر الشرقي، مثل أندريه ساخاروف وليخ فاونسا، لتُظهر الغرب كحارس للحرية.
لكنها نادرًا ما كرّمت رموز التحرر من الاستعمار الغربي، وكأن الكفاح ضد الهيمنة “ليس سلامًا”.
هكذا استُخدمت الجائزة في بناء صورة الغرب “الحرّ المتحضّر”، في مقابل الشرق “المقموع العنيف”، بينما بقيت حركات الاستقلال في آسيا وأفريقيا خارج المشهد.
لقد صارت الجائزة جزءًا من الحرب الرمزية لا أداة لتجاوزها.
معايير مزدوجة.. من الفعل إلى الصورة
في العقود اللاحقة، اتسع التناقض حتى صار فاضحًا.
أُهديت الجائزة عام 1994 لثلاثة أطراف في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي (رابين، بيريز، عرفات) رغم أن "السلام" كان آنذاك اتفاقًا هشًا محكومًا بإرادة المحتل.
وفي عام 2009، مُنحت للرئيس الأمريكي باراك أوباما بعد أشهر فقط من توليه الحكم — لا لفعله، بل لما يُتوقَّع أن يفعله. كانت مكافأة على الخطاب لا الإنجاز، على النوايا لا النتائج.
بهذه الانتقائية تحوّلت الجائزة من معيار أخلاقي إلى أداة ترويج سياسي، تُكافئ الخطاب “المعتدل” حتى وإن غطّى على استمرار العنف البنيوي.
صناعة السلام في زمن الإعلام
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت نوبل للسلام جزءًا من صناعة الصورة العالمية.
لم تعد تُعنى بمن أوقف حربًا أو أصلح نزاعًا، بل بمن يمكن تسويقه رمزيًا كـ“قصة إلهام”.
السلام تحوّل إلى منتج إعلامي: وجوه شابة، قصص نضال شخصية، رموز مرئية يمكن أن تملأ العناوين وتُغذّي المخيلة الغربية عن “الخير الكوني”.
هكذا تَغيّرت وظيفة الجائزة:
من تكريم المواقف، إلى إدارة الرموز.
ومن قياس الأثر الواقعي، إلى قياس التفاعل الجماهيري.
فالسلام هنا ليس مشروعًا سياسيًا بل “علامة تجارية” تُدار من داخل النظام العالمي نفسه.
سلام بلا مقاومة.. إنسانية بلا استقلال
يُكافأ اليوم من يدعو إلى “السلام” بمعناه الآمن: سلمٌ لا يهزّ البنية السياسية، وعدالة لا تمسّ الامتيازات، وإنسانية تُغنّي ضد الحرب لكنها لا تفضح صانعيها.
أما من يربط السلام بالتحرر الفعلي — من الاحتلال أو الاستغلال أو الإذلال الاقتصادي — فيُنظر إليه كـ"متطرف" أو "مسيّس"، أي خارج حدود الجائزة.
لقد أصبحت نوبل للسلام تعبيرًا عن سلام الطاعة:
سلام يطلب من المقهورين أن يغفروا قبل أن يتحرروا، ومن الضحايا أن يصمتوا باسم التسامح، ومن العالم أن يُصفّق لمن يتبنّى خطاب الوداعة ولو كان جزءًا من آلة القهر ذاتها.
أوسلو.. مركز السلطة الأخلاقية في العالم
اختيار النرويج — لا السويد — لتسليم جائزة السلام لم يكن صدفة.
فالنرويج تمثل في الوعي الغربي “الوسيط المحايد”، لكنها في الحقيقة جزء من المنظومة الأطلسية سياسيًا وثقافيًا.
بهذا التوزيع، أصبحت أوسلو منصة لتكريس ما يمكن تسميته “الهيمنة الأخلاقية الغربية”:
الغرب يعرّف السلام، يحدّد رموزه، ويمنح شهادات الشرعية الإنسانية لمن يشاء.
الجائزة إذن ليست مجرد تكريم، بل آلية لإنتاج الشرعية العالمية — تُعطي الغرب الحق في أن يُحدّد من يستحق أن يُسمى "صانع سلام"، ومن يظلّ “خارج الأخلاق”.
الجوهر المراوغ.. بين النبل والسلطة
لا يمكن إنكار أن بعض الفائزين بالجائزة قدّموا إسهامات حقيقية للإنسانية، لكن الإطار الذي تُمنح فيه الجائزة يجعلها دومًا مشروطة:
تُكرَّم الأعمال التي تُصلح ولا تُقلب، التي تُجمّل ولا تُفكّك، التي تواسي المظلوم دون أن تُسائل الظالم.
إنها جائزة النيات الطيبة داخل حدود مقبولة، لا الثورة على الظلم خارجها.
ومن ثم، تبقى نوبل للسلام انعكاسًا دقيقًا لعصر “الهيمنة الناعمة”: حيث تُدار السياسة بلغة الأخلاق، وتُفرض القوة باسم الإنسانية.
خاتمة: الجائزة التي تفضح النظام أكثر مما تُزيّنه
ربما لا تزال جائزة نوبل للسلام تحظى ببريقها العالمي، لكنها اليوم تكشف أكثر مما تُخفي.
فكل اختيار جديد يُظهر كيف يُعاد تعريف “الخير” و“الشر” وفق مصالح الأقوياء، وكيف يُستخدم الخطاب الإنساني لتجميل بنية السيطرة.
لم تعد الجائزة ضميرًا للعالم، بل مرآة تُظهر وجه القوة في قناع الرحمة.
سلامٌ يُروَّج له في العناوين، بينما يواصل العالم إنتاج الحروب في المصانع نفسها التي تُطبع فيها ميدالية نوبل.
العودة إلى أصل الفكرة.. سلام صُنِع من رماد الديناميت
لم تبتعد جائزة نوبل للسلام عن أصلها كما يُظن، بل ظلت تدور في فلكه العميق. فـألفريد نوبل، مخترع الديناميت، لم يتبنَّ رؤية أخلاقية ثورية تنقض الحرب، بل حاول أن يُجمّل إرثه الصناعي عبر تحويل الدمار إلى رمز للضمير. كان يبحث عن “خلاصٍ رمزي” لا عن نظام جديد للعالم.
واليوم، بعد قرن ونيف، يتجسد هذا المنطق في بنية الجائزة نفسها:
تُمنح باسم السلام، لكنها تُدار من قلب القوى التي تصنع أسباب الحروب.
إنها ليست مفارقة بل استمرار طبيعي لفلسفة “التحكم بالعنف لا إلغائه” — فلسفة ترى في القوة شرطًا للسلام، وفي الخضوع طريقًا للسكينة.
هكذا أُعيد تدوير فكرة الديناميت في ثوب أخلاقي: سلامٌ يُصنع من رماد الانفجار، ليُغطّي على مصدره.