لا شيء مقابل لا شيء: القاعدة الذهبية لفهم العلاقات الدولية

من يقرأ العلاقات الدولية بعين المثالية، يرى شعارات كبرى: “التعاون”، “التحالف”، “حقوق الإنسان”، “المساعدات الإنسانية”، ويظن أن الدول تتعامل فيما بينها كأصدقاء أو شركاء في قيم نبيلة. لكن الواقع أعرق من الأوهام، وأشد فجاجة. القاعدة الأولى لفهم السياسة العالمية هي ببساطة: لا شيء يُقدّم بلا مقابل.

العالم ليس حلبة أخلاق، بل ميدان مصالح. لا أحد يمنحك دعمًا لأنك على “الحق”، ولا أحد يتحالف معك لأنك مظلوم. كل شيء يُوزَن بكفة الربح والخسارة. وما لم تفهم هذه المعادلة، فستصفق حين تُعقد صفقة على حسابك، وتبتهج حين تُسلب سيادتك باسم التنمية.

أولاً: المساعدات الدولية… من يدفع، ولماذا؟

المساعدات ليست صدقة. إنها استثمار. كل دولار يُمنح، يقابله نفوذ يُنتزع، أو قرار يُشترى، أو بوابة مصالح تُفتح.

حين تمنح قوة عظمى دولةً نامية حزمة مساعدات، فإنها لا تفعل ذلك بدافع الرحمة، بل لتثبيت حضورها داخل القرار السيادي للدولة المتلقية، ولضمان بقاء النخبة الحاكمة ضمن هوامش الطاعة.

بل في كثير من الحالات، تُمنح المساعدات بشروط صريحة:تمرير أجندات سياسية معينة.
قبول اتفاقيات تجارية مجحفة.
السكوت عن الهيمنة العسكرية أو التدخلات الأمنية.

وحتى حين لا تُقال الشروط علنًا، فإنها مفهومة ضمنيًا، وتُدفع أثمانها لاحقًا في الملفات السيادية والاستراتيجية.

ثانيًا: التحالفات السياسية… عقود لا صداقات

التحالف بين الدول ليس رباطًا أخلاقيًا. إنه عقد مشروط بالمصالح، يُلغى تلقائيًا عند اختلال التوازن.أمريكا تخلّت عن شاه إيران بعدما صار عبئًا.
الناتو انسحب من أفغانستان بعد عشرين عامًا تاركًا الحلفاء المحليين لمصيرهم.
التحالفات في الشرق الأوسط تتقلب وفق تدفقات المال والسلاح، لا وفق القيم أو المبادئ.

حتى بين الدول الصديقة، تُستخدم أدوات الابتزاز:
ألمانيا، حليفة واشنطن، تعرضت لعقوبات أمريكية لمنعها من استيراد الغاز الروسي.
تركيا، عضوة في الناتو، خُصص لها خطاب مزدوج بسبب تقلب موقعها من مصالح الغرب.
في النهاية، التحالف ليس ميثاق وفاء، بل مشروع مصلحة… ينتهي بانتهاء المنفعة.

ثالثًا: التدخل الإنساني… الشعار الأجوف

“التدخل لأجل حماية المدنيين” هو الغلاف الناعم للحروب الحديثة. التدخلات لا تقع حيث تسيل الدماء فقط، بل حيث تتقاطع المصالح.فلسطين تنزف منذ عقود، دون تدخل دولي يُذكر.
رواندا شهدت إبادة جماعية ولم تحرك القوى الكبرى ساكنًا.
ليبيا واليمن وسوريا لم تُنقذها دعوات الديمقراطية، بل مزّقتها التدخلات بحجة حمايتها.
التدخل لا يُحسب بعدد القتلى، بل بثقل المكاسب:النفط.
الموقع الجيوسياسي.
النفوذ الإقليمي.
العقود المستقبلية في إعادة الإعمار.
حين يغيب الربح، تغيب “الإنسانية”.

رابعًا: أدوات السيطرة… دعم، عقوبات، إعلام

الهيمنة الدولية لا تُفرض دائمًا بالدبابات، بل غالبًا بالأدوات الناعمة:الدعم المالي: يُستخدم كأداة طاعة، لا كمحرك تنمية.
العقوبات الاقتصادية: لا تُفرض لإنقاذ الشعوب من الظلم، بل لتركيع الأنظمة الخارجة عن الطاعة.
الإعلام الدولي: لا يُغطي الأزمات حسب أولويتها الإنسانية، بل حسب موقعها من الصراع الجيوسياسي.

فما يُعرض على شاشات الأخبار ليس الحقيقة، بل ما يُسمح لك برؤيته من زوايا المنتصر.

خامسًا: الثمن تدفعه الشعوب

الصفقات تُعقد في القصور، لكن فاتورتها تُسحب من جيوب البسطاء.عندما تُمنح دولة قاعدة عسكرية أجنبية، فإن سيادتها تُنتقص.
حين تُفرض وصفات البنك الدولي، فإن الخدمات العامة تُخصخص، وتزداد الفجوة الطبقية.
عندما يتحالف حاكم مع قوة كبرى، فإن معارضيه يُصنَّفون إرهابيين، باسم “محاربة التطرف”.

والنتيجة: شعب بلا قرار، واقتصاد بلا هوية، وذاكرة مشروخة بحروب لم يختَرها.

خاتمة: افتح عينيك جيدًا

في هذا العالم، من لا يفهم القاعدة الذهبية: “لا شيء مقابل لا شيء”، سيتورط في تبرير الوهم، أو الدفاع عن الظالم لأنه “مانح”، أو اعتبار الاحتلال شراكة لأن الإعلام غسله جيدًا.

كل دعم هو استثمار.
كل تحالف هو مقايضة.
كل صمت هو ثمن دُفع… أو سيُدفع لاحقًا.
ولذلك، اسأل دومًا حين تسمع عن تعاون أو شراكة أو تدخل:
من يربح؟ من يخسر؟ ومن يبيع من؟


كلمات مفتاحية:
العلاقات الدولية، المصالح السياسية، التحالفات الدولية، التدخلات الغربية، المساعدات الخارجية، النفوذ الدولي، السيادة الوطنية، العقوبات الاقتصادية، آليات الهيمنة، النقد السياسي، لا شيء مقابل لا شيء

وصف الصورة المقترحة:
خريطة عالمية مفرغة على طاولة اجتماعات ضخمة، تمتد فوقها أيدٍ تمسك بأوراق نقدية وصفقات، بينما شعوب صغيرة الحجم تُحشر في الزوايا، تراقب بصمت من خلف جدران زجاجية عازلة.
أحدث أقدم
🏠