السلام بين الممالك: هل كان يومًا حقيقيًا؟

في خضم التاريخ البشري الممتد، لا تزال فكرة “السلام بين الممالك” حلمًا يتكرر في الخطابات المثالية، ويتصدر الشعارات الأممية، لكنه على مستوى الوقائع والتحولات، لم يكن أكثر من استثناء مؤقت، أو هدنة مشروطة بميزان القوة لا بقناعة بالسلام. 

لقد بُنيت أغلب الممالك عبر العصور على مبدأ التوسع، واعتُبر الازدهار قرين الهيمنة لا قرين العدالة. ولذا لم يكن السلام في أي حقبة تاريخية غاية في ذاته، بل وسيلة مرحلية، سرعان ما تُستبدل بالحرب حين تسمح الظروف. 

عقلية الممالك: التوسّع أولًا… والسلام لاحقًا 
منذ الحضارات القديمة كآشور وبابل، مرورًا بالإمبراطوريات الرومانية والفارسية، وصولًا إلى الدول الحديثة، كانت الرغبة في التمدد والسيطرة هي المحرك الأساسي للقرار السياسي. ولم يكن السلام يُعقد إلا عندما تفرضه موازين القوى، أو تمنعه الخسائر، لا لأن الأطراف رأت فيه قيمة مستقلة. 

حتى الإمبراطوريات التي رفعت شعارات السلم، لم تكن تقصد بذلك إلا السلام الذي يقوم على خضوع الآخر. 

فـ”السلام الروماني” (Pax Romana) لم يكن إلا هدنة يفرضها السيف الروماني على شعوب تم إخضاعها بالكامل. 

والدولة العباسية في أوج عظمتها لم تعرف الاستقرار إلا في فترات إعادة ترتيب داخلي، بينما كانت تخوض حروبًا مستمرة في الأطراف الشرقية والغربية. 

السلام حين يكون نتاج الضعف لا الرغبة 
التاريخ السياسي يعلمنا أن أكثر المعاهدات السلمية جاءت بعد حروب مدمرة، حين تُنهك الأطراف المتحاربة وتبحث عن استراحة لا عن تصالح. 

صلح الحديبية لم يكن تنازلًا من قريش، بل كان خضوعًا لمعادلة قوى جديدة في شبه الجزيرة. 
معاهدة وستفاليا التي أنهت الحروب الدينية في أوروبا لم تنشئ عهدًا من السلام، بل قسّمت العالم المسيحي إلى مناطق نفوذ محسوبة بدقة. 
بل حتى في العصر الحديث، كثير من معاهدات السلام كانت حيلة ديبلوماسية مؤقتة، كما في “اتفاقيات كامب ديفيد” التي عزلت مصر عن محيطها، لا أنها أوقفت الصراع العربي الصهيوني حقًا. 

سلام موضعي في عالم مشتعل 
حين نتحدث عن “السلام”، يجدر بنا أن نميّز بين سلامٍ شاملٍ عادل، وبين استقرارٍ موضعيّ لمملكةٍ ما في زمن معين. 

حين ازدهرت الحضارة الإسلامية في الأندلس، كانت أوروبا تغرق في الحروب الدينية. 
وحين سادت الإمبراطورية البريطانية على البحار، كان ملايين البشر في أفريقيا والهند يرزحون تحت الاستعمار. 
وعندما تغني الشعوب الغربية اليوم بفضائل السلام، تكون قاذفاتها تقصف قرى بعيدة لا تملك صوتًا في الإعلام. 

لم يكن السلام تاريخيًا شاملًا، بل كانت بقعة مستقرة تعيش على حساب فوضى أخرى. 

الأديان والثروات… محرّكات للحرب أم للسلم؟ 
في كثير من الحالات، لم تكن الممالك في صراعها تبحث عن بقاء، بل عن ثروات أو طرق تجارية أو نفوذ ديني. 

الحروب الصليبية استُخدمت فيها المعتقدات كغطاء لصراعات اقتصادية وسياسية عميقة. 
الاستعمار الحديث لبس عباءة “تمدين الشعوب”، بينما كانت الشركات الكبرى تنهب خيرات القارات المستعمَرة. 
وحتى التحالفات العسكرية المعاصرة مثل الناتو، لا تبني السلام بل تحمي مصالح اقتصادية وجيوسياسية لا أكثر. 

ما هو السلام الحقيقي إذن؟ 
السلام الحقيقي هو ذلك الذي يقوم على: 

عدالة العلاقات الدولية 
احترام سيادة الشعوب 
توازن المصالح لا غطرسة القوة 

وهذا السلام لم يُشهد يومًا على نطاق عالمي، بل ظل فكرة مثالية تطرحها الكتب الفلسفية، وتخرقها المدافع في الواقع. 

خلاصة القول 
السلام بين الممالك، كما يُصوّر في بعض الخطابات، لم يكن يومًا واقعًا تاريخيًا مستقرًا. 

بل كان في الأغلب: 
سلامًا مفروضًا بالقوة، 
أو هدنة مرحلية قبل الجولة التالية من الصراع، 
أو تحالفًا هشًا سرعان ما يتفكك إذا تغيّرت المعطيات. 

إن قراءة التاريخ بعيون واقعية تكشف أن الإنسان لم يعرف السلام العادل إلا في لحظات نادرة، وغالبًا على مستوى الأفراد والمجتمعات الصغيرة، لا بين القوى الكبرى. 

وهنا يكمن التحدي: كيف ننتقل من السلام كخطاب إلى السلام كواقع، دون أن يُفرض بالقهر أو يُخدع بالبروباغندا؟ 
أحدث أقدم
🏠