
في عالم ترسمه الخرائط السياسية وتحدّه الشعارات السيادية، لا يكفي أن ترفع دولة علمًا وتجلس في الأمم المتحدة كي تُحسب على الكيانات المستقلة. فثمة دول قائمة ظاهرًا، لكنها في جوهرها ليست سوى وظائف جيوسياسية، تُحرَّك كأدوات في لعبة الكبار.
وكوريا الشمالية مثال صارخ لهذا النمط: نظام صاخب، وسلطة مركزية شديدة الانغلاق، وأيديولوجيا قومية متطرفة، لكن قرارها السيادي مُقيّد بحبال غير مرئية تمتد إلى بكين وموسكو.
فهل نحن أمام دولة ذات إرادة حرة، أم مجرد كيان يستخدمه المحور الشرقي كورقة ضغط في صراع الهيمنة؟
في هذا المقال، نُفكك مفهوم الدولة في الحالة الكورية، ونكشف عن آليات التبعية المقنّعة خلف قناع السيادة الصلبة.
فالجواب ليس بسيطًا كما يبدو، بل يكمن في فهم الفرق بين شكل الدولة ووظيفتها.
السيادة الشكلية: حين تتحول الدولة إلى مشهد
من حيث التعريف القانوني، كوريا الشمالية دولة مكتملة العناصر: لها جيش، حدود، عملة، ومقعد أممي. بل وتملك ما لا تملكه دول كثيرة: سلاح نووي، ونظامٌ حديدي قادر على البقاء رغم الحصار.
لكن هذا البقاء ذاته يفضح مفارقة عميقة: فالاستقلال الحقيقي لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بمدى حرية القرار الوطني.
كوريا الشمالية محاصَرة اقتصاديًا من الغرب، ولا تجد لها نافذة تنفّس إلا في الصين، التي تستحوذ على أكثر من 90٪ من تجارتها الخارجية، وتغذّي شبكات التهريب التي تبقي النظام حيًا.
ما يعني أن النظام الكوري قائم على جهاز دعم صيني دائم، يتحرك ضمن هوامش محسوبة، ويخشى السقوط خارج المظلة.
الدولة كوظيفة لا ككيان
لفهم كوريا الشمالية خارج القوالب الإعلامية، يجب أن نراها كوحدة “وظيفية” أكثر منها “سيادية”. أي إنها لا تُفهم إلا بدور تُجسّده في معادلة الصراع بين الشرق والغرب.
فهي ليست لاعبًا مستقلًا في النظام العالمي، بل أداة توازن، أو بالأحرى “ورقة ضغط” في يد الصين وروسيا، يُلوّح بها كلما اشتد الصدام مع أمريكا أو حلفائها في المحيط الهادئ.
وما يؤكد ذلك هو التزامن الغريب بين التجارب الصاروخية الكورية والتوترات بين بكين وواشنطن، وكأن كل تصعيد من بيونغ يانغ هو صدى مباشر لاحتكاك في بكين أو موسكو.
وهذا لا يعني أن كوريا لا تملك قرارًا ذاتيًا، لكنها تملكه ضمن هامش مرسوم، لا يسمح لها بأن تتحول إلى شوكة ضد من يرعاها.
صمت الصين ليس حيادًا
الصين، التي تدّعي الحياد في الملف الكوري، تمثل في الواقع الطرف الأهم في بقاء النظام. فهي تمسك بمفتاح الغذاء والوقود والدعم الدبلوماسي، وتمنع أي قرار أممي حاسم قد يُسقط الحليف العنيد.
لكنها في الوقت ذاته، لا تريد كوريا قوية ومستقلة، بل كوريا وظيفية: متوترة بما يكفي لتُربك أمريكا، وضعيفة بما يكفي لتبقى تحت السيطرة.
لهذا، فإن الصمت الصيني عن التجارب النووية ليس تعبيرًا عن الرضا، بل عن الاستخدام. فالنظام الكوري ليس تابعًا بالمعنى التقليدي، لكنه رهينةٌ مدارة ضمن توازن دقيق يضمن لبكين ورقةً دائمة على طاولة التفاوض.
روسيا: الحليف الظرفي
أما روسيا، فتأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير، لكنها تجد في كوريا حليفًا مفيدًا في لحظات التأزيم مع الغرب.
وقد ازداد تقاربها مع بيونغ يانغ بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ بدأت تستثمر أكثر في هذا الحليف المعزول لتعزيز موقفها في آسيا.
لكن موسكو، مثل بكين، لا تريد كوريا شمالية حرة. بل تريدها “شريكًا مغضوبًا عليه”، يُستخدم عند الحاجة ثم يُعاد إلى القفص.
وهنا يظهر أن ما يُسمّى “محور الشر” ليس تحالفًا بين دول حرة، بل شبكة من الكيانات المحكومة بلعبة المصلحة لا بالقيم.
هل تمتلك كوريا قرارها؟
السؤال الجوهري ليس: هل تملك كوريا جيشًا أو سلاحًا نوويًا؟ بل: هل تستطيع اتخاذ قرار حاسم في الحرب أو السلام دون ضوء أخضر من بكين؟
الواقع يشير إلى أن هامش المناورة الكوري لا يتجاوز ما تسمح به الصين. لا في الاقتصاد، ولا في السياسة، ولا حتى في نوع التوتر المسموح.
والنظام ذاته يعلم ذلك. ولذلك يعوّل دائمًا على التهويل الإعلامي والتصعيد المؤقت دون تخطّي الخطوط الحمراء.
فالخطر ليس في اندلاع حرب، بل في فقدان ورقة التهديد. وهذا ما تُتقنه بيونغ يانغ: أن تظل تهدد دون أن تفعل، لتبقى ذات قيمة في سوق الابتزاز الدولي.
إذًا، هل هي دولة حقيقية؟
نعم، إذا نظرنا إلى الشكل المؤسسي.
لا، إذا تأملنا جوهر الاستقلال.
هي بالأحرى دولة تعيش على حافة الدولة: كيان قائم فيزيائيًا، لكنه وظيفي استراتيجيًا، ومقيدٌ إراديًا.
كوريا الشمالية ليست ظلًّا بالمعنى المباشر، لكنها ظلٌّ كثيف يُسقطه تنين الصين ودبّ روسيا على شبه الجزيرة، لتبقى ورقة مشتعلة في وجه الغرب كلما لزم الأمر.
وهي في النهاية، صورة مكثفة لما صار عليه كثير من “الدول” في هذا الزمن: سيادة على الورق، وتبعية في القرار، واستقلال لا يتجاوز الميكروفون الأممي.