
لكن خلف هذا الخطاب الدبلوماسي البراق، تقف بنية هرمية تُعيد إنتاج ميزان القوى العالمي، لا كسره.
فهل الأمم المتحدة حقًا تمثل الإرادة الجماعية للشعوب؟ أم أنها غطاءٌ قانوني لمصالح الكبار في ثياب القانون الدولي؟
الخطاب المعلن
تقدّم الأمم المتحدة نفسها كمنصة عالمية لحل النزاعات، وبناء السلام، وتكريس حقوق الإنسان، وتحقيق التنمية المستدامة.
وتقوم بنيتها الرسمية على مبادئ:
- المساواة بين الدول
- احترام السيادة
- تجنب استخدام القوة
- مساعدة الشعوب في تقرير المصير
- دعم التنمية والتعاون الدولي
وتضم تحت مظلتها هيئات متخصصة (كاليونسكو، واليونيسف، ومجلس حقوق الإنسان)، وصناديق تمويل، ومهام حفظ سلام، ومؤتمرات دولية تسعى لـ"إنقاذ العالم".
لكن هل أنقذته حقًا؟ أم شرعنت الدمار أحيانًا باسم الشرعية الدولية؟
الجانب المظلم
مجلس الأمن: احتكار القرار باسم "الفيتو"
الهيئة الأهم في الأمم المتحدة ليست الجمعية العامة التي تمثل كل الدول، بل مجلس الأمن، الذي تهيمن عليه خمس دول دائمة العضوية تمتلك "حق النقض".
بمعنى آخر: العدالة الدولية مشروطة برضا الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا.
- تُمنَع قرارات ضد إسرائيل بسبب الفيتو الأمريكي.
- تُشلّ الأمم المتحدة أمام جرائم كبرى إن عارضتها دولة كبرى.
- تتحوّل معاناة الشعوب إلى أوراق مساومة بين القوى الكبرى.
ازدواجية في القيم والتطبيق
حقوق الإنسان؟ تُرفع شعاراتها فقط ضد الخصوم، وتُخفَض أمام الحلفاء.
- تُنتقد دول الجنوب بتقارير مفصلة، ويُتجاهل سجلّ الغرب في السجون السوداء، والتجسس، وجرائم الحرب.
- تُمنح الشرعية لحروب "وقائية"، وتُترك شعوب تقاوم الاحتلال بلا غطاء أممي.
- النتيجة: المعايير الأخلاقية للأمم المتحدة مرنة للغاية، تُطوَّع حسب هوية الجاني والضحية.
حفظ السلام أم تثبيت الواقع؟
بعثات "حفظ السلام" كثيرًا ما تحوّلت إلى "تجميد للصراعات" بدل حلّها.
- في رواندا، فشلت الأمم المتحدة في منع الإبادة.
- في البوسنة، وقفت القوات الأممية عاجزة أمام مجازر سريبرينيتسا.
- في فلسطين، لم تُنقذ شعبًا يُحتل منذ أكثر من سبعة عقود.
التمويل المشروط والتبعية المالية
معظم ميزانية الأمم المتحدة يأتي من الدول الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة، ما يجعلها رهينة إرادات الممولين.
- تُمارَس ضغوط لخفض ميزانيات بعض الهيئات إذا اقتربت من "الخطوط الحمراء" السياسية.
- تُعطّل تقارير أو تُخفّف لهجتها خشية فقدان التمويل.
- وهكذا يتحول دور المنظمة من "ضمير العالم" إلى "بيروقراطية دولية خاضعة لرعاة النفوذ".
التوظيف السياسي للهيئات المتخصصة
بعض الوكالات الأممية (مثل وكالة الطاقة الذرية، أو لجنة حقوق الإنسان) تُستخدم كأدوات ضغط سياسية، لا أدوات مهنية فقط.
- تُجري الوكالات تفتيشًا مكثفًا في دول "مقلقة" للغرب، وتتجاهل ملفات أخرى.
- تُهدَّد الدول بتقارير أممية تُستثمر لاحقًا في قرارات سياسية أو اقتصادية.
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
ليس المطلوب هنا نسف فكرة "التعاون الدولي"، بل فهم طبيعة المنظومات التي تُدير هذا التعاون.
- الأمم المتحدة ليست كيانًا حياديًا، بل ساحة صراع مصالح مغلّفة بالشرعية.
- المساواة بين الدول تُكتب في المواثيق، وتُلغى في الممارسة.
- ما يُسمى "القانون الدولي" ليس إلا تعبيرًا عن توازن القوى لا عن عدالة كونية.
الخاتمة التحليلية
الأمم المتحدة تجسيد لزمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، زمنٌ خُطّت قواعده بأقلام المنتصرين، لا بأصوات المظلومين.
وهي اليوم لا تزال أداة تُعيد إنتاج ميزان القوى العالمي، لا تقويضه.
من يتعلّق بوهم "التدخل الدولي لإنقاذ الشعوب" دون تفكيك بنية هذه المنظمة، إنما ينتظر الخلاص من أدوات تقييده ذاتها.
إنها منظمة العالم القائم لا العادل، منظمة القوى لا الحقوق.
وإن لم تُكشف حقيقتها، ستظل تُشرعن الاحتلال، وتُقنّن القمع، وتُلبس الهيمنة عباءة القانون.