الجانب المظلم - المنظمات الدولية: برنامج الأغذية العالمي: مكافحة الجوع أم أداة لإدارة النزاعات؟

حين يُذكر "برنامج الأغذية العالمي"، يتبادر إلى الذهن فورًا مشهد إنساني نبيل: شاحنات تنقل الطعام إلى مناطق منكوبة، طوابير من الأطفال الجائعين، وصوت أممية يهمس بأمل النجاة. فهل هناك ما هو أنبل من إطعام الجائع؟ لكن، في عالم السياسة الدولية، لا توجد براءة مطلقة. فحتى لقمة العيش قد تصبح جزءًا من استراتيجية. وبين الخطاب الإنساني والممارسة الواقعية، يتوارى جانب مظلم قلما يُكشف عنه الضوء. الخطاب المعلن

تأسس برنامج الأغذية العالمي (WFP) عام 1961 بوصفه ذراع الأمم المتحدة لمكافحة الجوع حول العالم، ويقدّم نفسه كأكبر منظمة إنسانية تُعنى بالأمن الغذائي، إذ يوفّر الغذاء لأكثر من 100 مليون شخص سنويًا في أكثر من 80 دولة.

شعاره بسيط وقوي: "إنقاذ الأرواح وتغييرها".
ويؤكد البرنامج التزامه بالحياد، والبعد عن السياسة، والتركيز فقط على تلبية الاحتياجات الإنسانية الطارئة، ودعم الأمن الغذائي والاستدامة طويلة المدى. ولأنه فاعل رئيس في مناطق النزاع، فإنه يروّج لنفسه كوسيط موثوق بين الشعوب المتصارعة.

الجانب المظلم

وراء الشعارات الإنسانية، يقبع واقع معقد:
هل يُستخدم الغذاء كسلاح ناعم؟

في كثير من مناطق النزاع، لا يكتفي برنامج الأغذية بدور "المساعد"، بل يصبح جزءًا من التوازنات السياسية. ففي اليمن مثلًا، وُجهت اتهامات للبرنامج بتوزيع مساعدات بشكل غير متوازن، ما عزز هيمنة قوى معينة على حساب أخرى، بينما استُخدمت شحنات الغذاء أحيانًا كورقة ضغط في المفاوضات. وفي سوريا، كانت هناك تقارير عن خضوع مسارات الإغاثة لموافقة أطراف الصراع، مما جعل المساعدات تخدم ترتيبًا سياسيًا غير معلن.

يُضاف إلى ذلك التمويل المشروط من بعض الدول الكبرى. فالولايات المتحدة – باعتبارها أكبر مانح – تملك نفوذًا فعليًا على أولويات التوزيع والمناطق المستهدفة، ما يجعل شعار "الحياد" نظريًا أكثر منه عمليًا.

ثمّة بعد اقتصادي آخر:
بعض الشراكات مع الشركات الكبرى – مثل "بروكتر آند غامبل" و"كوكاكولا" – تفتح الباب أمام تساؤلات عن تحويل الجوع إلى فرصة تسويقية أو أداة تحسين صورة دول وشركات في أعين الرأي العام الدولي.

البرنامج كذلك لا ينأى بنفسه عن خطاب "العالم المتحضر يساعد المتخلفين"، حيث تُصوّر الشعوب المتلقية كمفعول بها دائمًا، ما يُرسّخ تصورًا هرمياً بين المانح والمتلقّي، بدلًا من تبني نماذج تنموية مستقلة ومستدامة.

تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري

  1. لا تتلقَّ كل خطاب "إنساني" دون فحص للسياق السياسي والتمويلي الكامن خلفه.
  2. افصل بين النية المعلنة والفعل العملي: تقديم الغذاء لا يعني بالضرورة دعمًا نزيهًا أو حياديًا.
  3. افهم العلاقة بين المساعدات والسيادة: حين يُربط البقاء بالمساعدات الخارجية، تتآكل قرارات الدول وتتشكل التبعية.
  4. راقب دور الإعلام: كيف يُسوّق البرنامج نفسه، ومن يخدم ذلك التسويق؟
  5. طالب بمنظومات محلية مستقلة: فالحل ليس في استمرار المعونات، بل في بناء القدرة على الاكتفاء.

الخاتمة التحليلية

إن مأساة الجوع ليست مجرد عجز في الموارد، بل نتيجة لاختلال في توزيع السلطة، وفي كثير من الأحيان يُعاد إنتاج هذا الاختلال عبر قنوات الإغاثة ذاتها. برنامج الأغذية العالمي ليس خصمًا للإنسانية، لكنه مثال على كيف يمكن أن تتحوّل الأدوات الإنسانية إلى أدوات "سياسية" ناعمة، تُستخدم لضبط الإيقاع الجيوسياسي في مناطق النزاع، وتوجيه الإدراك العالمي نحو سردية معينة.

ولأن العالم لا يحكمه الخير المطلق، فإن فهم أدوات الخطاب الإنساني هو أول خطوة نحو مقاومة استغلاله. فالمساعدات قد تطعم الجائع، لكنها أحيانًا تُسكته فقط عن طرح السؤال الأخطر: من الذي جعلني جائعًا؟

سلسلة: الجانب المظلم من العالم

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.