
لكن الواقع أكثر تعقيدًا: فهذه المحكمة التي يُفترض أن تكون فوق السياسة، وُلدت من رحمها، وتعمل ضمن شروطها، وتنتقي القضايا التي يُسمح لها بالنظر فيها.
فهل هي محكمة "العدل"، أم محكمة "الواقع الدولي" الذي تُعيد شرعنته بلغة القانون؟
الخطاب المعلن
محكمة العدل الدولية (ICJ)، وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، تُعلن عن مهامها بـ:
- تسوية النزاعات بين الدول وفقًا للقانون الدولي.
- إصدار آراء استشارية للهيئات الدولية.
- تعزيز مبادئ العدالة والشرعية الدولية.
- الحياد التام في التعامل مع جميع الدول، دون تمييز أو انحياز.
تُقدَّم كآخر ملاذ للدول المظلومة، وأداة لردع العدوان وفرض الالتزام بالقانون العالمي.
الجانب المظلم
اختصاص محدود ومشروط
- المحكمة لا تملك سلطة إلزامية على جميع الدول، بل فقط على من تقبل اختصاصها، ما يجعل الدول القوية بمنأى عن المحاسبة.
- الولايات المتحدة مثلاً، انسحبت من اختصاص المحكمة في عدة قضايا، وترفض تنفيذ أحكامها أحيانًا (كما فعلت في قضية نيكاراغوا 1986).
- إسرائيل ترفض قراراتها الاستشارية أو تتجاهلها، كما حصل في قضية الجدار العازل في الضفة الغربية عام 2004.
تسييس القضايا
- القضايا التي تُعرض على المحكمة غالبًا ما تأتي ضمن توازنات دبلوماسية معقدة، مما يعني أن ما يُعرض ليس دائمًا ما هو أكثر إلحاحًا أو إنصافًا.
- المحكمة تُحاط بـ"حذر سياسي"، فتبتعد عن محاسبة القوى الكبرى أو حلفائها.
- الكثير من المظالم الجماعية (كغزو العراق أو الحصار على غزة) لا تصل إليها، ليس لغياب القانون، بل لغياب الإرادة السياسية الدولية.
طابع استشاري بلا قوة تنفيذية
- كثير من قرارات المحكمة، خصوصًا الآراء الاستشارية، غير ملزمة. وهذا يعني أن مخرجاتها، حتى لو كانت عادلة، تبقى أقرب إلى "البيانات الأخلاقية" منها إلى الأحكام القضائية الفاعلة.
- التنفيذ مرتبط بمجلس الأمن، ما يعني أن القرار يخضع لفيتو الدول الخمس الكبرى، فتنقلب العدالة إلى رهينة الجغرافيا السياسية.
تمثيل دولي غير متوازن
- قضاة المحكمة يتم اختيارهم من الدول الأعضاء، ما يخلق توازنات تُمثّل "الواقع السياسي" أكثر من تمثيلها لـ"القانون المحض".
- وهذا يؤدي إلى تأثيرات ضمنية للولاءات القومية والسياسية في خلفية كل حكم.
انتقائية العدالة الدولية
- لا تُحاكَم الدول الكبرى أو حلفاؤها، بل تُقدَّم الدول الصغيرة والضعيفة كـ"نماذج مثالية للتقاضي".
- العدالة تُمارَس على من لا يملك وسائل الدفاع السياسي لا من يرتكب الجريمة الكبرى.
- ولهذا ترى شعوبًا بأكملها تشكّك في المحكمة، أو تراها جزءًا من منظومة السيطرة الغربية المغلّفة بالقانون.
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
- علينا فهم البنية السياسية التي تتحكم في إنتاج "العدالة الدولية"، لا الانبهار بلغة القانون المجرد.
- يجب مساءلة المؤسسات الدولية لا تمجيدها، والتمييز بين العدالة كقيمة، والعدالة كأداة نفوذ.
- دعم بناء مؤسسات عدالة بديلة أو موازية في الإقليم الجنوبي العالمي، تعكس أولويات الشعوب لا مصالح النخبة الدولية.
- تعزيز ثقافة حقوق الشعوب وتقرير المصير في مقابل "حقوق الدول" كما تُفصَّل في أروقة نيويورك ولاهاي.
- فضح انتقائية المحكمة لا يعني رفض القانون، بل المطالبة بعدالة لا تخضع لمنطق القوة.
الخاتمة التحليلية
محكمة العدل الدولية، كما هي اليوم، ليست ساحة خالصة للعدالة، بل مرآة مشروطة لتوازنات القوى العالمية.
هي تُشرعن ما يُسمح لها به، وتتجاهل ما لا يُراد له أن يُطرح.
وما لم تتحرر من قبضة الكبار، أو تُحاسب من يدّعي تمويلها، فستبقى محكمةً بلا أنياب، تنطق بالحق أحيانًا، لكنها تصمت عن الظلم في كثير من الأحيان.
ولن تقوم عدالة حقيقية، ما دامت السيادة محصورة في أيدي الكبار، وما دامت المحكمة ذاتها تُدار بمنطق المصالح لا المبادئ.