إسرائيل: حركة BDS سلاح المقاطعة الذي أرعبت مضاجعها

لم تكن حركة BDS مجرّد حملة تضامن عابرة مع فلسطين، بل تحوّلت خلال العقدين الأخيرين إلى واحدة من أكثر الحركات العالمية تأثيرًا في المعركة غير المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. إنها مقاومة ناعمة، لكنّ أثرها صلب، وبنيتها أخلاقية، لكنها تستهدف البُنى العميقة للاحتلال: شرعيته، اقتصاده، وصورته في الضمير العالمي.

ما هي حركة BDS؟

حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (Boycott, Divestment and Sanctions)، التي انطلقت رسميًا في 9 يوليو 2005، جاءت بمبادرة من أكثر من 170 منظمة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات. كانت استجابةً مباشرة لفشل المجتمع الدولي في إرغام إسرائيل على احترام حقوق الإنسان الفلسطيني، فرفعت الحركة ثلاثة مطالب جوهرية:

  1. إنهاء الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967.
  2. المساواة الكاملة في الحقوق للفلسطينيين في الداخل المحتل (1948).
  3. الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين وفقًا للقرار الأممي 194.

ورغم بساطة هذه المطالب ووضوحها القانوني، إلا أن التهديد الذي تمثله الحركة تجاوز حجمها، لأن جوهرها يمسّ ركيزة وجود إسرائيل: الشرعية الأخلاقية في أعين العالم.

لماذا تخشاها إسرائيل؟

ليست إسرائيل كيانًا هشًا عسكريًا، لكنها شديدة الحساسية تجاه صورة الذات في الإعلام الدولي. فالحركة تضرب في عمق هذا التصوّر المصطنع، الذي بنته الدعاية الصهيونية لعقود: أنها "واحة ديمقراطية"، و"ملاذ لشعب مضطهد"، و"دولة متقدمة تقاتل الإرهاب".

لكن BDS لا تحاربها بالصواريخ، بل بالوعي. تفكك الخطاب، تفضح الشركات الداعمة للاستيطان، تكشف نفاق الديمقراطيات الغربية في دعم نظام فصل عنصري، وتطرح سؤالًا محرجًا على العالم:

هل إسرائيل استثناء أخلاقي؟

أدوات التأثير: من السوق إلى الجامعة

أبرز ما في BDS هو تنوّع أدواتها وانتشارها العالمي:

  • المقاطعة الفردية: الامتناع عن شراء المنتجات الإسرائيلية أو منتجات الشركات المتورطة في دعم الاحتلال (مثل HP، Puma، Siemens...).
  • المقاطعة الأكاديمية والثقافية: رفض دعوات المؤسسات الإسرائيلية للمشاركة في مؤتمرات أو فعاليات فنية.
  • سحب الاستثمارات: ضغط على صناديق التقاعد والجامعات لسحب أموالها من شركات تستثمر في المستوطنات أو البنية التحتية للاحتلال.
  • العقوبات: الدعوة إلى فرض عقوبات رسمية من الدول على إسرائيل، على غرار ما فُرض على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

النجاحات: صغيرة لكنها موجعة

رغم أن إسرائيل لم تُعاقب رسميًا من أي دولة كبرى بسبب الحركة، إلا أن النتائج التراكمية كانت مؤلمة:

  • انسحاب شركات عالمية كبرى من مشاريع استيطانية.
  • تراجع عدد من الفنانين والكتاب عن زيارة إسرائيل.
  • سحب استثمارات من جامعات كبرى (مثل جامعة بيركلي وكورنيل وغيرها).
  • انتشار الوعي العالمي بعدم شرعية الاستيطان والاحتلال.

والأهم: دخول كلمة "أبارتهايد" (نظام الفصل العنصري) إلى الخطاب الحقوقي الغربي عند الحديث عن إسرائيل، وهو تحول نوعي لم يكن ممكنًا قبل BDS.

رد الفعل الإسرائيلي: ارتباك وهستيريا

لم تكتفِ إسرائيل باعتبار BDS حركة معادية، بل ذهبت إلى تصنيفها كـ"تهديد استراتيجي"، وسنّت قوانين لتجريمها، ودفعت بحملات مضادة في الجامعات الغربية، واستثمرت ملايين الدولارات لملاحقة نشطائها، ومنعهم من دخول فلسطين أو أوروبا.

لكنّ كل هذا لم ينجح في وقف المدّ، لأن الحركة لا تعتمد على الزعيم الفرد، بل على الضمير الجمعي، ولا تحتاج تمويلاً رسميًا، بل تعتمد على القناعة الأخلاقية التي تتسع كلما اتسعت جرائم الاحتلال.

الفرق بين المقاطعة الأخلاقية والتسويات السياسية

ما تُنجزه BDS ليس مسألة فنية ولا اقتصادية فحسب، بل هو إعادة تعريف للعلاقة مع الاحتلال: من نزاع سياسي قابل للتسوية، إلى جريمة مستمرة يجب تفكيكها. وهذا جوهر الفرق الذي لا يفهمه من يلهثون خلف اتفاقيات التطبيع، فهم يتعاملون مع إسرائيل كأمر واقع يجب التكيّف معه، بينما تتعامل معها BDS كأمر غير مشروع يجب مقاومته.

الخلاصة: سلاح الشعوب لا يُقهر

في عالمٍ تحكمه المصالح وتحميه الأسلحة، تبدو حركة BDS أشبه بالتيار البسيط الضعيف… لكنه تيار لا يمكن وقفه، لأنه يسير في عمق الوعي الإنساني. إنها رسالة: أن الشعوب، مهما سُلبت من الأرض، قادرة أن تُعيد تعريف ميزان القوى، متى امتلكت الوعي، والإرادة، والبوصلة الأخلاقية.

أحدث أقدم
🏠