رغم ما يبدو من استقرارٍ سياسيّ وعسكريّ لإسرائيل في ظاهر المشهد، إلا أن قراءة استراتيجية متأنية تُظهر أن كيان الاحتلال يقف على مفترق وجوديّ بالغ الخطورة. فـ"الزوال" لم يعد مجرّد شعارٍ يُرفع في المسيرات، بل بات خياراً موضوعياً تسنده حقائق داخلية وإقليمية ودولية تتراكم في اتجاهٍ عكسي تماماً لمسار الصعود الذي شهدته إسرائيل في العقود الماضية.
ضعف الداخل وتآكل الهوية
تعاني إسرائيل اليوم من انقسامات حادة في بنيتها الداخلية، تتجاوز الخلافات الحزبية المعتادة، وتمسّ جوهر الهوية الصهيونية. الصراع المتزايد بين المتدينين والعلمانيين، بين الأشكناز والمزراحيم، بين الدولة العميقة والحكومة المنتخبة، قد حوّل الداخل الإسرائيلي إلى ساحة تفكك ثقافي واجتماعي. ولم تكن احتجاجات 2023-2024 ضد تعديلات القضاء إلا مؤشراً صارخاً على هشاشة العقد الداخلي، حيث خرج مئات الآلاف، ليس فقط رفضاً للقوانين، بل رفضاً لمستقبلٍ لم يعودوا يؤمنون به.
الكلفة المتزايدة للاحتلال
بات الاحتلال عبئاً أمنياً وسياسياً يصعب تحمّله. ففي كلّ عدوان، يزداد اتساع جبهة المواجهة، وتتآكل قوة الردع تدريجياً. أحداث الضفة الغربية بعد عملية "الطوفان المقدس"، وصمود غزة المتكرر، والانخراط المتزايد للمقاومة في لبنان واليمن والعراق، يشير إلى أن إسرائيل لم تعد تقاتل تنظيماً صغيراً في قطاع معزول، بل باتت تواجه بيئة إقليمية مقاومة تتوسع باضطراد. لم تعد "الجبهة الشمالية" أو "غلاف غزة" مجرد خطوط اشتباك، بل صارت جبهات استنزاف مستمر.
مأزق الشرعية الدولية
في السابق، كانت إسرائيل تُراهن على تفوّقها الإعلامي والدبلوماسي لكسب الرأي العام الغربي، إلا أن مذبحة غزة الأخيرة مثّلت نقطة تحوّل غير مسبوقة. فالحراك الطلابي في الغرب، ومقاطعة الجامعات للشركات المتعاونة مع الاحتلال، وتنامي حركة BDS، كلّها دلائل على سقوط الهالة الأخلاقية التي طالما ادّعتها إسرائيل كـ"دولة ديمقراطية وسط بحر من الاستبداد". ومع ارتفاع أصوات داخل المجتمعات الغربية تُطالب بمحاسبة تل أبيب على جرائم حرب، بدأت تتآكل شبكة الحماية التي نسجها اللوبي الصهيوني لعقود.
تغير ميزان القوة الإقليمي
ربما تكون الحقيقة الأشد وطأة لإسرائيل هي أنها لم تعد الطرف الأقوى في المنطقة. فالتحولات الكبرى في موازين القوى – سواء على صعيد تطوير محور المقاومة لترسانته الصاروخية والتكنولوجية، أو على صعيد الانكفاء الأميركي عن الشرق الأوسط – قد جعلت إسرائيل في موضع دفاعي دائم. ومع تصاعد التهديدات من أطراف غير تقليدية مثل الحوثيين أو الفصائل العراقية، لم يعد بإمكانها ضمان التفوق الجوي أو المبادرة الهجومية دون ثمن باهظ.
التبعية الأميركية وحدود الاستقلال
رغم مظاهر القوة التي تحاول إسرائيل تصديرها، فإنها لم تكن يوماً كياناً مستقلاً بالمعنى الاستراتيجي الكامل، بل بقيت منذ تأسيسها مشروعاً مدعوماً أميركيًا في جوهره، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. وقد تزايد هذا الاعتماد في العقود الأخيرة، لا سيما مع تراجع قدرتها على خوض الحروب دون غطاء استخباراتي وتمويلي أميركي مباشر. لكن مع تصاعد الخسائر السياسية التي تتكبدها واشنطن نتيجة دعمها غير المشروط لتل أبيب، بدأت تظهر في أروقة القرار الأميركي ملامح ضيق خفيّ، يتساءل عما إذا كان المشروع الصهيوني لا يزال مربحاً استراتيجياً كما كان.
في المقابل، تُدرك إسرائيل هذا الخطر، وتسعى – كما تفعل الكيانات الهشة – للبحث عن توازنات جديدة وتحالفات بديلة تُخفف من وطأة التبعية المطلقة. لكنها تدرك أيضاً أن الولايات المتحدة لن تسمح لها بالاستقلال الكامل سياسيًا أو عسكريًا، خشية أن تنقلب عليها يومًا ما، خاصة وأن الكيان يمتلك ترسانة نووية وقدرات غير خاضعة تمامًا للرقابة.
وما يزيد المأزق تعقيدًا، هو أن إسرائيل قد ارتكبت – تحت غطاء هذه الحماية الأميركية – حماقات سياسية مفرطة، وجرائم إنسانية موثقة أمام أعين العالم، مستندة إلى شعور مزمن بالحصانة. والنتيجة؟ بدأت واشنطن تجد نفسها في موقع "كبش الفداء" لتلك الجرائم، تُحاكم أخلاقيًا وسياسيًا في الرأي العام العالمي، لا بسبب ما فعلته هي فقط، بل بسبب ما سمحت به لحليفتها الصهيونية. وبذلك تكون إسرائيل قد ورّطت حاميها التاريخي، في لحظةٍ حرجة يعيد فيها الغرب ترتيب أولوياته، ويقلّص تدخّلاته الخارجية.
نهاية الأسطورة
حين أنشئت إسرائيل، قامت على أسطورة التفوق المطلق: جيش لا يُقهر، دعاية لا تُدحض، شرعية لا تُمسّ. لكنّ الأسطورة تنهار اليوم. تتراجع الثقة بالجيش، تنكشف هشاشة العقيدة الأمنية، وتفقد الرواية الصهيونية سحرها في عيون العالم. ومع انكشاف زيف المشروع "التحضّري"، ينهار معها مبرّر وجودها.
هل الزوال مسألة وقت؟
الزوال لا يعني بالضرورة الانهيار المفاجئ، بل قد يكون في شكل تفكك تدريجي، فقدان للردع، استنزاف متواصل، أو حتى تحول إلى كيان بلا نفوذ، معزول ديموغرافيًا ومحاصر أخلاقيًا. فكما أن صعود الكيان لم يكن نتيجة انتصار واحد، فإن سقوطه سيكون بفعل تراكمات متشابكة، تُنتج لحظة تاريخية لا يمكن تفاديها.