
لكن ما بين الميثاق والواقع، اتّسعت الهوة، وتحوّل الحلم القومي إلى مؤسسة بيروقراطية ثقيلة، تُجيد إدارة الاجتماعات أكثر من إدارة الأزمات.
فهل كانت الجامعة مشروعًا وُلد ضعيفًا؟ أم أنها أُفرغت عمدًا من مضمونها، لتبقى مجرد غطاء لفظي لتناقضات الأنظمة العربية؟
الخطاب المعلن
تتبنّى الجامعة في نصوصها الرسمية مبادئ وحدة الصف العربي، والدفاع عن السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ودعم القضية الفلسطينية، وتعزيز التنمية المشتركة.
كما تصف نفسها بأنها الإطار المؤسسي الأعلى للتنسيق بين الدول العربية سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وحاملة صوت العرب في المحافل الدولية.
الجانب المظلم
رغم الخطابات القومية الرنّانة، بقيت الجامعة عاجزة عن تحقيق حتى الحد الأدنى من التضامن الفعلي بين دولها الأعضاء.
في كل أزمة عربية كبرى – من غزو العراق إلى حروب ليبيا وسوريا واليمن – اتخذت الجامعة مواقف مرتبكة أو متأخرة، تعكس اصطفافات دولية أكثر مما تعبّر عن إرادة عربية جامعة.
بل إنّ بعض قراراتها كانت مثار جدل، مثل تعليق عضوية سوريا، أو مباركة تدخلات عسكرية خارجية في بلدان عربية، ما أفرغ مبدأ "عدم التدخل" من مضمونه.
غابت الجامعة عن أدوار الوساطة المؤثرة، وبدت – في كثير من الأحيان – كأنها تُدار وفق حسابات أنظمة، لا وفق مصالح شعوب، وأصبحت المنصة الرسمية لتبادل المجاملات أكثر من كونها ساحة لحل النزاعات أو صياغة رؤى مستقبلية.
أما الملف الفلسطيني، فقد تحوّل إلى بند بروتوكولي في بياناتها، دون أي تأثير فعلي، فيما تتسابق بعض دولها نحو التطبيع المنفرد، بمعزل عن الموقف العربي الجماعي.
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
لا يكفي نقد الجامعة كمؤسسة، بل ينبغي مساءلة بنيتها وآلياتها. فهل يمكن لكيان إقليمي أن يكون فعّالًا دون استقلالية حقيقية عن الأنظمة؟
الوعي التحرري يبدأ من تجاوز فكرة "التمثيل الشكلي"، والتفريق بين مؤسسات تُدار بالحد الأدنى من الإرادة المشتركة، ومؤسسات تُستخدم لتجميل الانقسامات وتحويل الضعف إلى توافق مزعوم.
إن الإصلاح لا يكون بإعادة إنتاج نفس النمط بصياغات جديدة، بل بإعادة النظر في منطق العمل الجماعي العربي ذاته: كيف، ولماذا، ولمن؟
الخاتمة التحليلية
جامعة الدول العربية ليست مجرد مؤسسة فاشلة، بل مرآة صريحة لواقع عربي مفكك، تُركت فيه الشعوب خارج المعادلة.
وما لم تتحوّل هذه الجامعة من منصة سلطوية إلى إطار يعكس طموحات الناس لا مصالح الأنظمة، ستظل مجرّد أرشيف للبيانات والخطب، لا رافعة للمصير العربي المشترك.