إسرائيل وإيران: لماذا تصرّ تل أبيب على التحرش بطهران رغم عدم القدرة على الحرب الشاملة؟

في مشهد متكرر من التوترات الأمنية بين إسرائيل وإيران، تتسارع الأحداث على امتداد الشرق الأوسط، حيث تواصل إسرائيل تحركاتها العسكرية والاستخباراتية ضد إيران، رغم الاعتراف الدولي والمحلي بأن أي حرب شاملة بين الطرفين ستكون كارثية على الجميع، وأن إسرائيل ليست في وضع يمكنها من تحقيق حسم عسكري سريع مع إيران. فما الذي تريده إسرائيل فعلاً من هذا التحرش المستمر، ولماذا تصر على إبقاء جبهة التوتر مفتوحة مع دولة تعتبرها خصماً استراتيجياً كاملاً وليس مجرد "ميليشيات"؟

1. الأبعاد الاستراتيجية: إيران كتهديد وجودي لا يمكن تجاوزه

تعتبر إسرائيل إيران تهديداً وجودياً يتجاوز الحسابات العسكرية التقليدية، فالتهديد لا يأتي فقط من قوة السلاح الإيرانية، بل من العقيدة السياسية والدينية التي تحكم النظام الإيراني، والتي تبنّت منذ الثورة الإسلامية عام 1979 فكرة الصراع المستمر مع الكيان الصهيوني. إيران لم تبنِ قوة عسكرية فحسب، بل عملت على شبكة معقدة من وكلاء الحرب الإقليمية، مثل حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والميليشيات في العراق وسوريا، مما يضع إسرائيل تحت حصار شبه دائم من جبهات متعددة لا يمكن التعامل معها كخصم عادي.

التحرش الإسرائيلي المستمر يهدف إلى إضعاف هذه الشبكة المتفرعة التي تجعل من إيران قوة ردع غير مباشرة تتحدى الأمن القومي الإسرائيلي على مدى جغرافي واسع. هذه الشبكة هي مصدر القلق الأكبر، لأنها تُمكّن إيران من توجيه ضربات عبر وكلاء لا يخضعون لمعايير الحروب التقليدية.

2. كبح النفوذ الإيراني: هدف إقليمي يعكس خوف إسرائيل من الهيمنة

التحركات الإسرائيلية ليست ضد إيران فقط كدولة، بل تهدف إلى وقف تمددها الإقليمي الذي يشكل "قوساً شيعياً" يبدأ من إيران ويمتد إلى لبنان واليمن مروراً بسوريا والعراق. كل نقطة تحرك إيراني في هذه الدول تعني تغيير موازين القوى لصالح طهران، وهذا يهدد المصالح الأمنية الإسرائيلية بشكل مباشر.

في هذا السياق، تأتي الضربات الإسرائيلية الموجهة في سوريا ضد القوافل أو المنشآت العسكرية الإيرانية، وعمليات الاغتيال المستهدفة، ليس كحرب شاملة، بل كحرب استنزاف تحاول من خلالها إسرائيل تقليل قدرة إيران على تطوير حضورها العسكري خارج حدودها.

3. الأزمات الداخلية الإسرائيلية: مبرر للتيارات المتشددة والمواقف الحازمة

في الوقت الذي تواجه فيه إسرائيل أزمات داخلية سياسية واجتماعية، بما في ذلك أزمات حكم متكررة واستقطاب سياسي حاد، تتحول القضية الإيرانية إلى ساحة للتعبير عن الحزم والقوة. تستغل القيادة الإسرائيلية، خاصة التيارات السياسية المتشددة، ملف إيران لاستقطاب الرأي العام عبر تبني مواقف صارمة تجاه "العدو"، في وقت تعجز فيه عن تقديم حلول داخلية.

هذا الاستغلال يجعل من الملف الإيراني أداة سياسية داخلية بقدر ما هو تهديد خارجي، ويُعزز تمسك إسرائيل بالتحرش المستمر بطهران رغم مخاطره، كرمز لوضع لا يُقبل فيه الضعف أو التراخي.

4. النووي الإيراني: محور الصراع المعلن وغير المعلن

رغم استبعادك للموضوع النووي كسبب مباشر، إلا أن ملف البرنامج النووي الإيراني يظل العصب المحرك لمعظم التحركات الإسرائيلية، التي ترى في أي تقدم طهراني في هذا المجال خطراً وجودياً. إسرائيل لا تقبل احتمال أن تمتلك إيران السلاح النووي أو حتى القدرة عليه، لأنها تعتقد أن ذلك سيقلب موازين القوى في المنطقة بشكل جذري، وسيقوض الردع الإسرائيلي.

هذا الملف يشكل الغطاء لكل أنواع التحرشات، سواء كانت عسكرية أو استخباراتية أو سياسية، ويستمر كسبب رئيسي للحفاظ على حالة التوتر.

5. التحرش كرسالة ردع وتشكيل توازن قوى إقليمي

من منظور إسرائيلي، لا يمكن السماح لإيران بالتحرك بحرية دون ردع مستمر. فالتحرش المتكرر يرسل رسالة لكل اللاعبين الإقليميين والعالميين أن إسرائيل تمتلك القدرة على المواجهة، وأنها لن تتردد في استخدام القوة لمنع أي "تغيير قواعد اللعبة" على الأرض.

هذه الاستراتيجية ليست محاولة لحرب شاملة، بل لبناء "حرب منخفضة الحدة" (Low-intensity conflict) تسعى من خلالها تل أبيب إلى الحفاظ على ميزان قوى لصالحها، وعدم السماح لطهران بالتفوق الإقليمي.

6. مواجهة خصم معقد: إيران ليست مجرد ميليشيات بل دولة ذات عقيدة قتالية

إيران ليست خصماً هيناً أو مجرد مجموعات مسلحة غير نظامية، بل هي دولة ذات سيادة تمتلك جيشاً نظامياً متطوراً وعقيدة قتالية تستند إلى الثورة الإسلامية وحرب الاستنزاف التي مارستها ضد العراق، كما استثمرت خبرات عديدة في حرب الوكالة وتطوير قدرات الصواريخ والطائرات المسيرة.

هذا يجعل مواجهة إيران أكثر تعقيداً، ويجبر إسرائيل على اللجوء إلى تكتيكات التحرش المستمر بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة، التي تحمل مخاطر جسيمة، منها فتح جبهات متعددة في آن واحد.

الخلاصة

إسرائيل تصر على التحرش بإيران ليس لأنها تريد حرباً شاملة، ولا لأنها قادرة على تحقيق حسم سريع، بل لأنها في حالة دائمة من الصراع الاستراتيجي والوجودي مع دولة تمتلك عقيدة قتالية ونفوذاً إقليمياً متنامياً. هذه المواجهة تكشف عن تعقيد الأبعاد الأمنية والسياسية، حيث تلعب إسرائيل دور الحارس الذي يحاول كبح تمدد إقليمي لا تستطيع القضاء عليه بسهولة، عبر تحركات تكتيكية تهدف إلى الحفاظ على ميزان القوى، والإيحاء بالقوة داخل إسرائيل وخارجها، في ظل أزمات داخلية وضغوط إقليمية متصاعدة.

هذا الصراع سيظل مفتوحاً بلا حل قريب، لأنه ينبع من تناقضات عميقة في رؤية الطرفين للوجود والهيمنة في الشرق الأوسط، ولا يتعلق فقط بالسلاح النووي أو قدرات عسكرية محددة، بل يتصل ببنية الصراع الإقليمي نفسه.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡