التطبيع تحت الركام: هل ما زال ممكنًا بعد غزة؟

في زمن المجازر الموثّقة بالبثّ المباشر، تتهاوى الخطابات الرسمية مثل رمادٍ في مهبّ الحقيقة. كان مشروع التطبيع العربي مع إسرائيل يُقدَّم في السنوات الماضية على أنه مسار "سلام واقعي"، يُحقّق مكاسب اقتصادية، ويُقلّل من التوترات. لكن المجازر المتكررة في غزة، خصوصًا في عدوان 2023–2024، فجّرت هذا الوهم أمام الرأي العام العربي، وكشفت الهوة الشاسعة بين أنظمة تطبّع، وشعوب تتألّم.

خطاب الأنظمة... ولغة المصالح

منذ توقيع "اتفاقات إبراهام"، تبنّت عدة دول عربية سردية جديدة تروّج للتطبيع بوصفه انفتاحًا نحو المستقبل. وقد خُصّصت لذلك وسائل إعلام، ومراكز دراسات، بل حتى مناهج تعليمية. غير أن هذه السردية اصطدمت بجدار الواقع في كل مرة تُزهَق فيها أرواح المدنيين في غزة، وتُرتكب جرائم موثّقة بالكاميرات. فالأنظمة تتحدث لغة المصالح، لكن الشعوب تتلقّى الصور بصيغة الصدمة الأخلاقية.

الشعوب ترفض... حتى بصمتها

لا يُقاس رفض الشعوب بالتظاهرات فقط. في كثير من الأحيان، يكفي غياب التأييد الشعبي ليكون شكلًا من أشكال المقاومة الصامتة. الاستطلاعات –حتى الغربية منها– تُظهِر بوضوح أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية، بما فيها شعوب الدول المطبّعة، لا تؤيّد أي علاقة مع إسرائيل، وترى فيها قوة احتلال. إذًا، هناك فجوة شرعية وأخلاقية بين السلطة والمجتمع.

أزمة الخطاب الإسرائيلي بعد غزة

ما بعد غزة ليس كما قبلها. فإسرائيل، التي لطالما سوّقت نفسها كـ"دولة ديمقراطية تحمي نفسها من الإرهاب"، فقدت الكثير من رصيدها الأخلاقي أمام العالم، وبالأخص أمام شعوب المنطقة. مشاهد قتل الأطفال، وهدم المستشفيات، ومحو الأحياء السكنية من الوجود، أحدثت هزّة عميقة حتى في أوساط كانت متعاطفة سابقًا مع الرواية الإسرائيلية.

التطبيع تحت الركام: أزمة سردية

المشكلة الكبرى في مشروع التطبيع ليست سياسية فقط، بل سردية. كيف يمكن لأنظمة أن تروّج للتعايش والشراكة، في الوقت الذي تُرتكب فيه مذابح بشعة أمام أعين شعوبها؟ كيف يمكن الحديث عن "سلام دافئ" بينما تحترق غزة؟ إن هذا التناقض يُضعف أي مصداقية ممكنة، ويحوّل مشروع التطبيع إلى عبء سياسي لا يمكن تجميله بسهولة.

هل مات التطبيع؟ أم دخل غرفة الإنعاش؟

الوقائع تقول إن مشروع التطبيع لم يمت تمامًا، لكنه فقد زخمه بشكل كبير. توقّفت اللقاءات العلنية، وتراجعت الحملات الإعلامية، وتبدّدت الحماسة الرسمية. بات من الصعب على أي نظام أن يُعلن عن اتفاق جديد مع تل أبيب دون أن يواجه عاصفة رفض داخلي أو سخط إقليمي. وبذلك، دخل المشروع في حالة من التجميد، أو كما وصفها بعض المراقبين: غرفة الإنعاش الجيوسياسي.

خاتمة

تُظهر تجربة غزة أن الشعوب تحتفظ ببوصلة أخلاقية، حتى حين تُحاصر بالخطابات الرسمية. ومهما حاولت الأنظمة تلميع صورة الاحتلال أو تبرير التطبيع، فإن مشاهد الدماء تتفوّق على كل آلة دعاية. ما حدث في غزة لن يُمحى سريعًا، وسيبقى حجر عثرة أمام أي محاولة لإعادة هندسة الوعي العربي لصالح تطبيعٍ بلا ضمير.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡