
في الزمن العربي الرديء، كثير من المآسي تُدفن قبل أن تُفهم، ويُحاكم ضحاياها بينما يُصنّف جلادوها "رجال دولة". العشرية السوداء في الجزائر واحدة من تلك الجراح التي لم تُفتح حقًا. ليس لأنها بعيدة، بل لأنها قريبة جدًا من جوهر ما نحن فيه: نظام يخاف الديمقراطية أكثر من الحرب، وسلطة ترى في الموت وسيلة لضبط المجتمع.
فكيف تحوّلت دولة بحجم الجزائر إلى مقبرة معلّقة بين العسكر والظلام؟
من أشعل الحرب؟ ومن ربح من الجرح؟
وهل كانت العشرية مأساة عفوية، أم مشروعًا سياسيًا بصبغة دموية؟
ما الذي حدث؟
في ديسمبر 1991، جرت أول انتخابات تشريعية تعددية في تاريخ الجزائر، وحققت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (الفيس) فوزًا كاسحًا في الجولة الأولى.
بدلًا من احترام نتائج الصناديق، تدخّل الجيش وألغى الانتخابات، واعتقل قادة الحزب، وأغلق المجال السياسي، لتبدأ بعدها واحدة من أكثر الحروب الداخلية دموية في العالم العربي.
على مدى عشر سنوات، غرقت البلاد في فوضى أمنية عارمة: اغتيالات، مجازر جماعية، اختفاء قسري، قرى أُحرقت بمن فيها، أحياء سُويت بالأرض، وآلاف العائلات هاجرت أو اختفت.
قُدّر عدد القتلى بأكثر من 200 ألف، بينما بقيت الرواية الرسمية للدولة ملفوفة بالغموض، والذاكرة الشعبية مثقلة بالخوف.
هل كانت الحرب مفتعلة؟ ومن المستفيد؟
لم تكن العشرية السوداء مجرّد انزلاق عرضي إلى العنف.
هناك شواهد دامغة على أن إلغاء الانتخابات كان قرارًا استباقيًا لتفجير الصراع، لا لتجنّبه. النظام، الذي تأسّس على شرعية ثورية عسكرية، رأى في صناديق الاقتراع تهديدًا وجوديًا.
لكن الأخطر أن **جزءًا من هذا الصراع كان مدبّرًا بذكاء:
- تُرك المجال مفتوحًا أمام الفيس للتعبئة بلا توازن،
- ثم أُلغيت الانتخابات بطريقة استفزازية،
- ثم وُضعت البلاد بين خيارين: الإرهاب أو النظام.**
بعض المجازر التي وقعت في التسعينيات – مثل مذبحة بن طلحة والرايس – تثير شبهات حول تورّط أجهزة رسمية في التواطؤ أو الفعل المباشر.
وفي حين اتُّهمت الجماعات الإسلامية بالوحشية، بقي الدور القذر لأجهزة الاستخبارات والجيش مغلّفًا بالحصانة والصمت.
المستفيد الأول كان النظام العسكري، الذي استعاد شرعيته بالقوة، وأعاد هندسة الحياة السياسية بالكامل، بحيث لا يُنتخب أحد إلا من اختاره العسكر مسبقًا.
خلفيات الحدث: النظام الذي خاف من الشعب
منذ الاستقلال، حُكمت الجزائر بنظام حزبي مغلق متمثّل في "جبهة التحرير الوطني"، مدعوم من المؤسسة العسكرية.
لكن الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات، والاحتجاجات الشعبية المتكررة (خصوصًا انتفاضة 1988)، أجبرت النظام على فتح نافذة تعددية.
غير أن هذا الانفتاح لم يكن نابعًا من إيمان بالديمقراطية، بل كان تراجعًا تكتيكيًا سرعان ما انقلب إلى انقضاض دموي حين فاز الإسلاميون.
ماكينة الموت: بين الدولة والميليشيا
العنف لم يكن عشوائيًا. لقد نشأت في البلاد أجهزة أمن موازية، وسُمح لميليشيات محلية بالتحرك بحرية (مثل "القرى المحمية")، فيما اعتُقل عشرات الآلاف بلا محاكمة.
الجماعات الإسلامية المسلّحة ردّت بموجات عنف مضاد، لكن بعضها تفكك لاحقًا أو انقسم على نفسه.
المواطن العادي لم يكن طرفًا: كان الهدف.
الأطراف المتورطة: اللعبة الدولية الصامتة
رغم فداحة المأساة، صمت العالم.
لم تُفرض أي عقوبات، ولم تُطلب تحقيقات دولية، ولم يُنظر للجزائر كدولة تنهار.
ربما لأن الغرب ارتاح لفكرة أن النظام "العلماني" انتصر على "الإرهاب"، ولو ببحر من الدماء.
في حين كانت بعض القوى الإقليمية تخشى "عدوى الديمقراطية" إن نجح الإسلاميون.
الحصيلة: بلد بلا ذاكرة رسمية
العشرية السوداء خلفت:
- أكثر من 200 ألف قتيل.
- آلاف المختفين قسرًا.
- انهيار الثقة بين الشعب والدولة.
- مجتمع يعاني من رُهاب السياسة، وفقدان الأمل في التغيير.
وبدل فتح الملفات، فُرضت المصالحة الوطنية بقانون العفو، وتم منع أي تحقيقات مستقلة.
حين يُمنع التاريخ من الكلام
لم يُفتح أي ملف بصدق.
لم يُحاسَب أي جنرال.
لم يُعترف بأي ضحية باسمها.
كل شيء دُفن تحت شعارات "الأمن أولًا" و"نسيان الماضي".
حتى اليوم، تبقى شهادات الناجين والصحفيين والضحايا في الظل، وتبقى الذاكرة الجماعية ممزقة بين رعب الدولة ورعب الجماعة.
خاتمة: هل نملك شجاعة مواجهة الجرح؟
العشرية السوداء ليست مجرد فصل مظلم في التاريخ الجزائري، بل هي نموذج مأساوي لما يحدث حين تحتقر الدولة شعبها، وحين تُكتب السياسة بالرصاص لا بالقلم.
لكن الأخطر: أن الجريمة تُنسى حين لا تُسمّى، وتُعاد حين لا تُدان.
ما لم يُكشَف هذا الجرح، سيبقى مستعدًا للنزف من جديد، في بلد آخر، باسم آخر، بنفس الآليات.
فمن سيكتب الحقيقة… حين يكون القاتل هو من يكتب الرواية؟
سلسلة: الكوارث العربية الكبرى