حصار جوهيمان للحرم المكي 1979: بين التمرد المقدس والتحالفات الخفية

في ذروة تحولات الشرق الأوسط، وتحديدًا في عام 1979، كان الحرم المكي شاهدًا على حدث غير مسبوق، تمرد مسلح استهدف أقدس بقعة إسلامية، يحمل أبعادًا دينية وسياسية وثقافية هزّت السعودية والمنطقة بأسرها. لم يكن الحصار مجرد عملية تمرد داخلي، بل كشف عن صراعات عميقة بين سلطة تقليدية محافظّة وإرث ديني متشدد متنامٍ، وسط صراعات إقليمية ودولية تخللتها تحالفات سرية وتداخل مصالح كبرى. في خضم هذه التوترات، خرجت روايات مختلفة حول كيفية إنهاء الحصار، خاصة الرواية الرسمية السعودية التي اكتفت بالتغطية المحلية، والروايات الفرنسية التي كشفت عن دعم استخباراتي وعسكري خفي قاد إلى اقتحام الحرم. هذه المآساة تلقي الضوء على هشاشة النظم العربية في مواجهة التشدد الداخلي، وتكشف الوجه الخفي من تحالفات القوى الدولية.

العنوان التاريخي للمأساة:

حصار الحرم المكي (20 نوفمبر – 4 ديسمبر 1979)

الخلفية والسياق السياسي:

كانت السبعينيات مرحلةً حاسمة في تاريخ السعودية والمنطقة، حيث شهدت المملكة محاولة حذرة للتحديث السياسي والاقتصادي تحت راية الملك خالد، مقابل تمسك قوي بالثوابت الدينية. في الوقت نفسه، انفجرت الثورة الإسلامية في إيران في فبراير 1979، مما أحدث زلزالًا في العالم الإسلامي، وألهب تيارات دينية متشددة. داخل السعودية، نشأ جيل من السلفيين الجهاديين، منهم محمد بن عبد الله الجوهري (جوهيمان العتيبي)، الذين رفضوا التغيرات، واعتبروا النظام السعودي خائنًا للشريعة، وداعمين لما وصفوه بـ"الفساد السياسي والاجتماعي". هذا التوتر تراكم حتى وصل إلى حصار الحرم، الذي كان ذروة التحدي بين التيار الديني المتشدد والسلطة الملكية.

تفاصيل المأساة:

في 20 نوفمبر 1979، اقتحم جوهيمان العتيبي مع حوالي 200 مسلح الحرم المكي، معلنين إلغاء النظام القائم وإقامة خلافة إسلامية وفق فكرهم المتشدد. استُخدم الحرم درعًا بشريًا، وتم قطع الاتصال مع الخارج، مما وضع السلطات السعودية في مأزق استراتيجي خطير. خلال الحصار الذي استمر حوالي أسبوعين، تعرض الحرم لهجوم نفسي وعسكري شديد، إذ قُتل وأُصيب العشرات من الحجاج والموظفين. الرواية الرسمية تركز على أن قوات الأمن السعودية هي التي نفذت عملية فض الحصار بحنكة وبمساعدة مستشارين عرب، ولكن الروايات الفرنسية كشفت لاحقًا عن دور أعمق وأكثر تعقيدًا.

أدوار المتورطين: النظام السعودي والدعم الفرنسي الخفي

بحسب مصادر استخباراتية وتقارير فرنسية نشرت لاحقًا، فإن السعودية طلبت دعمًا استخباراتيًا وعسكريًا من فرنسا، التي أرسلت فرقة من خبرائها لتقديم المشورة والتدريب لقوات الأمن السعودية، وتوفير معدات خاصة لعملية الاقتحام التي تخللت استراتيجيات معقدة لضمان فض الحصار بأقل الأضرار الممكنة على الهيكل المقدس.
هذه التدخلات تضمنت استغلال تقنيات متقدمة في ذلك الوقت، مثل التخطيط الدقيق للعمليات، والتنسيق بين القوات البرية والجهات الأمنية، إضافة إلى دعم استخباراتي مكثف شمل مراقبة الاتصالات داخل الحرم.
وقد أثارت هذه الرواية الفرنسية، التي تكشف عن علاقة تحالفية سرية بين الرياض وباريس، تساؤلات عن مدى تدخل القوى الغربية في الشؤون الدينية الداخلية للمملكة، وكيف كانت الحرب الباردة تُدار على أرض الحرمين الشريفين.

النتائج والأثر:

الحصار ترك ندوبًا عميقة في النسيج السعودي، فقد أكد هشاشة النظام في مواجهة التطرف الداخلي، وفرض عليه مراجعة علاقته مع التيارات الدينية السلفية. أدت العمليات الأمنية المكثفة إلى اعتقال وإعدام العديد من المتهمين، وتم تعزيز الأجهزة الأمنية والسيطرة على الخطاب الديني الرسمي.
أما على المستوى الإقليمي، فقد عززت السعودية من تحالفاتها الغربية، خاصة مع فرنسا، التي دخلت في دور أمني استخباراتي مهم. كما أن الحدث شكل نقطة تحول في العلاقة بين الدين والسياسة، إذ حاول النظام استخدام الدين كأداة للحفاظ على سلطته، وفرض رقابة أشد على الفضاء الديني.

النسيان المتعمّد:

رغم ثقل الحدث، فإن الرواية الرسمية السعودية حاولت طمس تفاصيل الحصار، وإخفاء أي إشارة إلى الدعم الأجنبي، مع تصنيف العديد من الوثائق المتعلقة بالحادث بالسرية التامة. بقيت التفاصيل الحقيقية طي الكتمان، لتتحول إلى روايات بديلة متناثرة في تقارير غير رسمية وأرشيفات خارجية.
تم ترويج خطاب رسمي يُظهر الحصار كتمرد داخلي محدود، بينما تجاهلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية العمق الاستراتيجي للحدث، وما شهده من تحالفات دولية. وقد أدى هذا إلى حالة من النسيان المتعمد في الوعي الجمعي العربي، وأبقى الجرح مفتوحًا تحت سطح السردية الوطنية.

 خاتمة نقدية فلسفية:

حصار جوهيمان للحرم المكي لم يكن فقط صراعًا بين مسلحين ونظام، بل هو مرآة تعكس أزمة السياسة والدين في العالم العربي. كيف يمكن لدولة تعتمد على المرجعية الدينية أن تتعايش مع تيارات تعلن رفضها لها؟ وكيف تستخدم أنظمة الحكم الدين لتثبيت سلطتها بينما تخشى على نفسها من نسخته المتشددة؟
إن الكشف عن الدعم الفرنسي في فض الحصار يوضح كيف أن الأحداث المحلية ليست بمعزل عن صراعات نفوذ دولية، وأن الصراعات الإقليمية تُدار خلف الكواليس بأدوات متعددة. يبقى السؤال: هل يمكن للذاكرة العربية أن تتجاوز هذا النسيان المدبّر، وتعيد قراءة مآسيها بما يحقق فهمًا حقيقيًا للزمن السياسي والديني؟



إشارات مرجعية: تعتمد هذه السلسلة على روايات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية السعودية، وشهادات أعضاء سابقين في الجماعة مثل ناصر الحزيمي، إلى جانب كتاب "جهيمان والدراما السياسية" لمحمد بن عبد الله السيف، وتقارير صحفية دولية (Le Monde، The New York Times)، وتحقيقات وثائقية مرئية مثل برنامج "ما خفي أعظم" على قناة الجزيرة، وسلسلة "وفي رواية أخرى"، فضلًا عن تحليلات مراكز دراسات أمنية دولية (CSIS).

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡