
من وعد بلفور إلى الاعتراف الرمزي
اللافت أن بريطانيا هي ذاتها التي وضعت الأساس القانوني والسياسي لإقامة إسرائيل عبر وعد بلفور عام 1917، الذي منح أرضًا لا تملكها لشعب لا وجود له على حساب شعب قائم. بذلك تكون بريطانيا الجهة المؤسسة للأزمة، فهي التي زرعت الكيان الصهيوني كأداة استعمارية لتفكيك المشرق العربي وضبطه ضمن التوازنات الغربية. واليوم، حين تعلن الاعتراف بفلسطين، فإنها تحاول أن تضع نفسها في موقع “المُنصِف” بينما هي أصل الجريمة.
الاعتراف كأداة لتبييض السياسات
الاعتراف البريطاني يأتي في لحظة تزايد الغضب الشعبي العالمي من مشاهد الإبادة في غزة، وتنامي الاحتجاجات داخل أوروبا نفسها. وبريطانيا، التي رعت المشروع الصهيوني منذ البداية، تجد نفسها مضطرة لتقديم “بادرة رمزية” تهدئ الشارع وتوحي بوجود مراجعة. لكنها بادرة لا تكلّفها شيئًا، لأنها لا تترجم إلى تغيير في سياساتها الدفاعية أو الاستخباراتية الداعمة لإسرائيل.
ازدواجية الخطاب والدعم العملي
من جهة، تعلن لندن اعترافها بفلسطين كدولة، ومن جهة أخرى، تواصل توفير الغطاء الدبلوماسي والعسكري لتل أبيب. هذا التناقض ليس عرضيًا؛ بل هو جزء من آلية تضليل سياسي متعمدة، تجعل الاعتراف يبدو كمنحى تقدمي بينما هو في الواقع مجرد إعادة ترتيب للأوراق بما يحفظ النفوذ الغربي ويمنع انفلات الصراع عن السيطرة.
حسابات الجبر السياسي
الاعتراف البريطاني لا يُفهم إلا في إطار ما يمكن تسميته بـ“الجبر السياسي” الغربي: أي هندسة المواقف بحيث تُفرض على المنطقة خيارات محدودة لا تتجاوز السقف المرسوم. الغرب يريد أن يقول للفلسطينيين: “ها نحن اعترفنا بكم دولة، لكن ضمن شروطنا وحدودنا، وليس عبر مقاومة الاحتلال أو فرض السيادة الفعلية على الأرض”. هنا يتحول الاعتراف إلى وسيلة لضبط السردية وإعادة إنتاج الوصاية بدلاً من إنهائها.
ماذا يستفيد الفلسطيني من الاعتراف؟
بالنسبة للفلسطينيين، قد يُكسب الاعتراف البريطاني رصيدًا معنويًا وقانونيًا؛ فهو يضيف إلى سجل الاعترافات الدولية الذي تجاوز 140 دولة، ويمنح حجة إضافية في المحافل الأممية ضد مزاعم إسرائيل بعدم وجود شريك أو كيان سياسي شرعي. كما أنه يضع بعض الحرج على الحكومات الغربية الأخرى التي ما زالت ترفض الاعتراف.
لكن في الجانب العملي، لا يغير الاعتراف شيئًا من واقع الاحتلال: لا يوقف القصف، ولا يعيد اللاجئين، ولا يضمن السيادة على الأرض أو الموارد. بل إن الغرب قد يستثمر هذا الاعتراف للقول: “لقد منحناكم دولة على الورق، فاقبلوا بتسوية سياسية على مقاسنا”، وهو ما قد يتحول إلى أداة ضغط لإجبار الفلسطينيين على القبول بحلول منقوصة.
المكاسب الحقيقية لبريطانيا
- استعادة دور دبلوماسي مفقود بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
- امتصاص غضب الداخل البريطاني الذي يزداد انحيازًا للقضية الفلسطينية.
- إعادة تلميع الصورة الأخلاقية لبريطانيا عالميًا دون أي تكلفة سياسية أو اقتصادية حقيقية.
ما وراء الرمزية
يبقى الاعتراف البريطاني مجرد خطوة شكلية تُضاف إلى أكثر من 140 اعترافًا دوليًا سابقًا، دون أن تُغيّر شيئًا في ميزان القوى الميداني. فإسرائيل لا تزال تحظى بدعم عسكري واقتصادي مطلق من الغرب، والفيتو الأمريكي ما زال يحول دون أي قرار ملزم في مجلس الأمن. إن القيمة الحقيقية لهذه الخطوة تكمن فقط في تعرية التناقض الغربي بين الشعارات والممارسات.
خلاصة
الاعتراف البريطاني بفلسطين ليس منعطفًا تاريخيًا بقدر ما هو مناورة سياسية. الغرب، الذي صنع أصل الكارثة عبر وعد بلفور وتأسيس الكيان الصهيوني، لا يمنح الفلسطينيين اليوم حقًا، بل يمنح نفسه فرصة جديدة ليبدو “عادلاً” فيما يواصل إدارة الصراع لصالح إسرائيل. وهنا يكمن جوهر اللعبة: الاعتراف ليس إلا أداة من أدوات التضليل الإعلامي والجبر السياسي، لا وسيلة لتحرير الأرض أو رفع الاحتلال.
كيف يتعامل القارئ مع الاعترافات الرمزية؟
أمام مثل هذه الخطوات، من الضروري ألا يقع القارئ أو المتابع في فخ التصفيق للرمزية الفارغة. فالقوة الاستعمارية التي صنعت أصل الكارثة لا يمكن أن تتحول فجأة إلى منقذ. المطلوب هو قراءة هذه الاعترافات باعتبارها جزءًا من لعبة الجبر السياسي التي تهدف إلى ضبط الصراع ضمن حدود لا تهدد مصالح الغرب، لا باعتبارها تنازلًا صادقًا لصالح الفلسطينيين.
إن وعي القارئ هنا هو خط الدفاع الأول: أن يدرك أن التحرر لا يأتي عبر اعترافات تُمنح من الخارج، بل عبر إرادة الفلسطيني نفسه وصموده، بينما الاعترافات الدولية ليست سوى أوراق ضغط متبادلة بين القوى الكبرى. بهذا الفهم، يتحول الخبر من “منعطف تاريخي” إلى دليل إضافي على استمرار الوصاية الغربية على المنطقة.