أفغانستان: ترامب بين وهم العودة واستحالة الواقع

منذ أن أعلن دونالد ترامب رغبته في "العودة إلى القاعدة الأمريكية في أفغانستان"، بدا تصريحه أقرب إلى وهم سياسي منه إلى خطة عسكرية ممكنة. فأفغانستان لم تكن ساحة حرب عابرة، بل مستنقعًا غاصت فيه الولايات المتحدة عشرين عامًا قبل أن تخرج مثقلة بالهزائم والخسائر. فكيف يمكن أن يفكر ترامب بالعودة إلى ساحة لم تستطع بلاده أن تغادرها إلا بعد عقدين من الاستنزاف؟

الخطاب الشعبوي: استدعاء صورة أمريكا القوية

الخطاب موجه بالأساس إلى الداخل الأمريكي. ترامب يحاول أن يعيد لنفسه صورة "الرجل القوي" القادر على استرجاع الهيبة التي فُقدت مع انسحاب بايدن. فهو لا يهدد طالبان بقدر ما يغازل الناخب الجمهوري، مستخدمًا لغة القوة والهيمنة، حتى وإن كان يدرك استحالة التنفيذ.

ورقة ضغط في لعبة الجغرافيا السياسية

أفغانستان تقع في قلب التوازنات الكبرى: بجوار الصين وروسيا وإيران. لهذا فإن مجرد التلويح بالعودة يمنح واشنطن ورقة ضغط، تُستخدم في المساومات الدولية أكثر مما تُستخدم على الأرض. فالعودة هنا ليست خطة، بل وسيلة ابتزاز استراتيجي، ورسالة بأن أمريكا لا تزال تحتفظ بخيار التدخل ولو كان مكلفًا.

استحالة العودة: المستنقع من جديد

الدخول إلى أفغانستان مجددًا يعني إعادة الانغماس في نفس المستنقع:

  • طالبان اليوم أقوى وأكثر رسوخًا، ولا يمكن إخضاعها.
  • الشعب الأفغاني، بعد عشرين عامًا من الاحتلال، لن يقبل حتى بوجود رمزي أمريكي.
  • الداخل الأمريكي نفسه غير قادر على تحمّل حرب طويلة في ظل الديون والأزمات.
  • أي تدخل جديد يعني فشلًا متكررًا وخسائر قد تفوق ما سبق.

بمعنى آخر، العودة ليست خيارًا عسكريًا بل انتحار سياسي. وأفغانستان لن تسمح حتى بالجبر، بعدما اختبرت ثمن الاحتلال وأفشلته.

الدرس المستتر

إعلان ترامب ليس وعدًا بالقوة، بل انعكاس لعجز الإمبراطورية عن تقبّل حقيقة الهزيمة. إنه حنين إلى زمن الهيمنة، أكثر مما هو مشروع واقعي. فأفغانستان أثبتت أنها مقبرة القوى العظمى، وكل محاولة للعودة ليست سوى وهم يعيد واشنطن إلى نفس الفخ الذي كلفها عقدين من الحرب.

ماذا يعني ذلك لأفغانستان والعالم العربي؟

بالنسبة لأفغانستان، يوضح التصريح أن استقلالها لا يزال مهددًا بالابتزاز الخارجي، حتى بعد الانسحاب الأمريكي. أما للعالم العربي، فالرسالة أعمق: إن واشنطن لا تتعامل مع الشعوب إلا كحقول اختبار لهيمنتها، تدخل حينًا بالقوة وتنسحب حينًا آخر، لكنها لا تكف عن التلويح بخيار "العودة" كجزء من إدارة الجبر السياسي. وهنا يكمن الدرس: أن مواجهة الهيمنة لا تكون فقط بمقاومة الاحتلال المباشر، بل أيضًا بكشف أوهام القوة التي يُراد زرعها في الوعي العام كأداة تخويف دائمة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.