الاقتصاد السياحي: السياحة: الواجهة البراقة للاقتصاد المقيّد والسيطرة العالمية

في التقارير الرسمية وخطابات وزراء الاقتصاد، تُقدَّم السياحة بوصفها رافعة تنموية وركيزة للدخل القومي. تُعرض الأرقام في جداول أنيقة: نسب نمو، ملايين الوافدين، مليارات من "العائدات". لكن خلف هذه الصورة المصقولة، ثمة حقائق أكبر: المال لا يبقى في البلد، والسيطرة على صناعة السياحة تعني أيضًا السيطرة على الصورة الخارجية للبلد، وبالتالي على مكانته في الاقتصاد العالمي.


أرقام على الورق… وأرباح تتسرب

التقارير الحكومية تدرج السياحة كجزء من حسابات الناتج المحلي، لكن القسم الأكبر من أرباحها يتسرب إلى الخارج. فأسعار المواد المستوردة، أجور الشركات الأجنبية، وحصص الاستثمار الأجنبي، جميعها تلتهم النسبة الأكبر من الإيرادات قبل أن تلمس الاقتصاد المحلي. النتيجة: أرقام براقة على الورق، لكن تأثير محدود على حياة المواطن، بينما تعزز هذه الصناعة تبعية البلد للمراكز الاقتصادية الكبرى.

ما يريده السائح… وما يقدمه البلد

التصور الشائع أن السائح يسافر بحثًا عن الطبيعة أو الثقافة، لكنه يبحث في الواقع عن تجربة استهلاكية معدّة مسبقًا: راحة، أمان، رفاهية مؤقتة، وأنشطة منظمة. الطبيعة والثقافة مجرد مواد خام تُصقل وفق معايير السوق العالمية، بينما الدولة المستضيفة تتحول إلى مسرح يقدم نسخة مفلترة للسائح، تعكس مصالح المستثمرين قبل احتياجات السكان.

الفاتورة الخفية للسائح الواحد

كل دولار ينفقه السائح غالبًا لا يدخل الاقتصاد المحلي بالكامل:

  • شركات الطيران العالمية تستحوذ على الجزء الأكبر من التنقلات.
  • منصات الحجز العالمية تتحكم في نسب العائدات.
  • الفنادق والمطاعم الكبرى غالبًا مملوكة لشركات أجنبية.
  • الموردون الأجانب يضمنون استمرار تسرب الأموال خارج البلد.

بهذه الطريقة، تتحول السياحة إلى آلية لإعادة توزيع الثروة لصالح الاقتصاد العالمي المسيطر، وليس لصالح الدولة المضيفة أو سكانها.

السياحة التي تغيّر المدن

الاعتماد على الدخل السياحي الموسمي يجعل المدن والمجتمعات هشّة أمام أي أزمة اقتصادية أو سياسية. كما تتحول المرافق والخدمات إلى نمط يخدم الزائر لا المواطن، وترتفع الأسعار ويُعاد تشكيل الثقافة المحلية لتتناسب مع ذوق المستهلك الخارجي. النتيجة: اقتصاد هش وهويات محلية مُعاد هندستها.

السياحة كأداة للنفوذ الجيوسياسي

السيطرة على السياحة تعني أكثر من مجرد أرباح مالية:

  • التحكم في الرواية العالمية عن الدولة، وإبراز الوجه الذي يخدم مصالح المستثمرين الخارجيين.
  • خلق تبعية اقتصادية وثقافية طويلة الأمد، تجعل الدولة في موقع تابع ضمن النظام الاقتصادي العالمي.
  • استغلال السياحة كأداة ناعمة للتأثير السياسي، من خلال ترويج صورة "مستقرة وآمنة" لجذب الاستثمارات والسائحين من الدول الكبرى.

الخلاصة: السيطرة على الرواية قبل السيطرة على العائد

السياحة اليوم ليست نشاطًا بريئًا، بل منظومة متكاملة من التسويق، الاستثمار، والسيطرة الجيوسياسية. من لا يمتلك مفاتيحها سيظل تابعًا، مهما بلغ عدد الزوار، لأنه فقد السيطرة على روايته الاقتصادية والثقافية، وعلى الفوائد الحقيقية لأمواله وموارده الطبيعية.



+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.