دولة تحت المجهر: إندونيسيا – بين إرث الاستعمار ونزعة الاستقلال الإسلامي


إندونيسيا، البلد الأكبر من حيث عدد المسلمين في العالم، تمثل نموذجًا فريدًا لتعددية دينية وعرقية، لكنها ليست بعيدة عن تدخلات القوى الكبرى في رسم ملامح توجهاتها. فالوصاية هنا لا تأتي على شكل احتلال عسكري، بل عبر نفوذ اقتصادي، وبرامج "تسامح" مشروطة، وسياسات أمنية مستوردة. فهل هي دولة مستقلة فعلًا، أم محكومة بسقف خارجي غير مرئي؟

1. تمهيد: الدولة الأرخبيلية والتحدي الوجودي
إندونيسيا ليست دولة عادية، بل أرخبيل هائل يضم أكثر من 17 ألف جزيرة، ويحتضن أكبر عدد من المسلمين في العالم. لكن هذه الكتلة البشرية والجغرافية الهائلة لم تُترَك لتختار مصيرها ببراءة، بل كانت دومًا في مرمى الجذب الاستعماري والتدخل الخارجي، من الهولنديين إلى الأميركيين.

2. ذاكرة الاستعمار الهولندي والتقسيم الطائفي
حكمت هولندا إندونيسيا لأكثر من ثلاثة قرون، وهيمنت على مواردها وهيكلت مجتمعاتها على أسس طائفية وعرقية لضمان السيطرة. هذا الإرث لا يزال يُلقي بظلاله على توازن القوى الداخلية، ويعيد إنتاج نفسه بأدوات حديثة تحت شعارات "التعددية" و"الوحدة في التنوع".

3. من سوكارنو إلى سوهارتو: الانقلابات باسم الاستقرار
بعد الاستقلال، قاد سوكارنو مشروعًا طموحًا لتحرير القرار الإندونيسي، لكن الولايات المتحدة دعمت انقلابًا عسكريًا بقيادة سوهارتو عام 1965، تحت ذريعة مواجهة الشيوعية. هذا الانقلاب الدموي أدى إلى مجازر راح ضحيتها أكثر من نصف مليون إندونيسي، وكان درسًا قاسيًا في الثمن الذي تدفعه الدول حين تخرج عن الخط المرسوم لها.

4. الإسلام السياسي تحت القمع والتوظيف
رغم الطابع الإسلامي للشعب، ظل التيار الإسلامي مستهدفًا ومحاصرًا من الأنظمة العسكرية المتعاقبة. ما يُسمّى "الاعتدال الإسلامي" في إندونيسيا ليس إلا نتيجة هندسة سياسية مدروسة، تسمح بقدر محسوب من التعبير الإسلامي، دون أن يصل إلى مفاصل القرار أو يهدد البنية العلمانية التي خُطط لها أن تكون السقف النهائي.

5. السياسة الخارجية بين الحياد والتبعية
تتبنّى إندونيسيا سياسة خارجية ظاهرها الحياد، لكنها تخضع في واقع الأمر لتوازنات دقيقة تضمن عدم التصادم مع المحاور الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والصين. الدعم الأميركي لإندونيسيا في مؤسسات التمويل الدولية لم يكن يومًا مجّانيًا، بل مشروطًا بالبقاء ضمن شبكة المصالح الغربية في جنوب شرق آسيا.

6. قضية بابوا الغربية: جرح لم يُشفَ
بابوا الغربية، الغنية بالثروات، تعاني من حراك انفصالي مستمر، تواجهه الدولة بالقمع الإعلامي والعسكري. القضية تُحجب دوليًا رغم فظاعاتها، لأن الشركات الغربية، وعلى رأسها Freeport-McMoRan، تستثمر هناك منذ عقود وتستنزف الموارد تحت حماية الدولة المركزية.

7. دور الجيش والتغلغل الأميركي الصامت
الجيش الإندونيسي ليس مجرد مؤسسة دفاعية، بل فاعل سياسي واقتصادي يحتفظ بشبكات نفوذ داخلية مدعومة غربيًا. التعاون الأمني مع واشنطن ازداد بعد أحداث بالي، تحت لافتة "مكافحة الإرهاب"، لكنه منح الأميركيين حضورًا عسكريًا غير معلن في الدولة.

8. الإعلام والديمقراطية الهشة
رغم وجود صحافة حرة ظاهريًا، فإن النخبة الإعلامية في جاكرتا ترتبط برؤوس الأموال المحلية والدولية، وتُدير الخطاب بما لا يتجاوز السقف المرسوم. الديموقراطية في إندونيسيا تعمل كآلية لتدوير النخب، لا كأداة لتغيير حقيقي في البنية السياسية أو الاقتصادية.

9. ما الذي يُراد لإندونيسيا أن تكون؟
المطلوب لإندونيسيا أن تظل نموذجًا "إسلاميًا معتدلًا"، لا يهدد مصالح الشركات الغربية، ولا يُحرج الحلفاء، ولا يتبنّى قضايا المسلمين عالميًا. يُراد لها أن تكون قوة ديموغرافية ضخمة بلا مخالب سياسية أو مشروع حضاري خاص، وأن تظل منشغلة بإدارة تنوعها الداخلي، لا بتحدي نظام الهيمنة العالمي.

10. خلاصة: دولة قابلة للاحتواء أم مشروع مُؤجَّل؟
إندونيسيا اليوم تقف بين خيارين: أن تظل دولة قابلة للاحتواء في إطار التوازنات الغربية، أو أن تعيد وصل ما انقطع من مشروع التحرر الذي بدأه سوكارنو وقُمِع بالحديد والنار. والسؤال الأخطر هو: هل تستطيع أكبر دولة مسلمة أن تمارس سيادتها دون أن تُجبر على دفع الثمن؟

سلسلة: دولة تحت المجهر

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡