دولة تحت المجهر: إيران: الجمهورية بين السيادة والوصاية


في قلب الشرق الأوسط، تقف إيران كلاعب إقليمي قوي، تتشابك حوله التصورات والأساطير والمخاوف. كثيرًا ما تُقدَّم الجمهورية الإسلامية باعتبارها دولة "متمردة" على النظام العالمي، تتحدى الغرب وتدعم المقاومة، ولكن خلف هذا الخطاب الممانع تبرز طبقات معقدة من التفاهمات، التوظيفات، وأحيانًا التناقضات. فهل إيران دولة ذات قرار مستقل، أم أنها أسيرة لعبة توازنات دقيقة بين النظام العالمي والطموح الإقليمي؟ وأين تقع الشعوب في معادلتها؟

1. خطاب الممانعة: هل هو حقيقة أم ورقة تفاوض؟

منذ الثورة عام 1979، تبنت إيران خطابًا مناهضًا للغرب، رافعة شعارات "الاستقلال" و"الموت لأمريكا". لكن في واقع الأمر، كثيرًا ما ظهر هذا الخطاب مرنًا عند الضرورة، قابلًا للمساومة. فالاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع القوى الغربية لم يكن مجرد خطوة تقنية، بل إقرار ضمني بقبول قواعد النظام الدولي – ولو بشروط.
الازدواجية في هذا الخطاب تكشف أن الممانعة ليست دائمًا موقفًا مبدئيًا، بل أداة تفاوضية تُستخدم لتحصيل مكاسب، أو كغطاء داخلي لشرعنة السياسات.

2. النفوذ الإقليمي: مقاومة أم توسّع؟

تتباهى إيران بنفوذها في العراق، سوريا، لبنان، واليمن، باعتباره دعمًا لجبهات المقاومة. غير أن هذا التمدد لم يكن مجانيًّا، ولا دائمًا في خدمة القضايا العادلة. فالدعم الإيراني غالبًا ما يخضع لحسابات دقيقة: من يُستخدم؟ متى؟ وكيف؟
وقد تحوّل هذا النفوذ أحيانًا إلى وصاية سياسية أو أمنية على حركات مقاومة وطنية، مما أثار نقاشًا حول حدود المساعدة مقابل الهيمنة، بل وطرح تساؤلات جدّية حول طبيعة العلاقة بين إيران وهذه الحركات: هل هي شراكة ندّية؟ أم علاقة تبعية استراتيجية؟

3. الداخل الإيراني: بين الاستقرار القسري وصوت الشارع

الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت على فترات في إيران (مثل احتجاجات 2009 و2022) تكشف أن الخطاب الخارجي الصارم لا يُعفي النظام من أزماته الداخلية.
فالشعب الإيراني، رغم حرمانه من الحريات السياسية والإعلامية، لم يتوقف عن التعبير عن استيائه من الفساد، والتضييق، والتفاوت الطبقي. وهنا يظهر تناقض واضح: كيف يمكن لدولة ترفع راية "المستضعفين" أن تسحق صوتهم حين يظهر في الداخل؟

4. العلاقة مع القوى الكبرى: عداء مُدار؟

رغم ما يبدو من عداء شرس بين إيران وأمريكا، إلا أن العلاقة بينهما لم تكن يومًا صدامية مطلقة. فقد جرت تفاهمات سرّية، وتبادلات ناعمة في فترات متفرقة، خاصة في الملفات الأمنية بالعراق وأفغانستان.
هذا "العداء المُدار" يخدم أحيانًا الطرفين: فهو يمنح أمريكا ذريعة لتبرير وجودها العسكري، ويمنح إيران أداة لتوحيد الداخل، وتشتيت الأنظار عن المطالب الحقيقية.

5. المنطقة كرهينة لصراع الرموز

السياسة الإيرانية لا تُمارس في فراغ، بل في بيئة مفعمة بالهويات والطوائف والصراعات الرمزية. وهنا تلعب طهران على أوتار مذهبية بشكل ذكي، مما يجعل بعض حضورها في المنطقة مشحونًا بخطاب طائفي، سواء قصدت ذلك أم لم تقصده.
وفي المقابل، توظف بعض الأنظمة العربية هذه الورقة لتبرير قمع داخلي أو تبرئة النفس من فشلها، فتتحوّل إيران من لاعب إلى شمّاعة، وتُضخم صورتها إلى درجة الأسطورة أو الشيطنة.

خاتمة

إيران ليست ذلك النموذج البسيط الذي يُسوَّق في الإعلام: لا هي "شيطان مطلق"، ولا "ملاك مقاوم". إنها دولة تمارس السياسة بكل تناقضاتها، تتقاطع أحيانًا مع قوى الاستعمار، وتعارضها أحيانًا أخرى، لكنها في كل الأحوال تُخضع قراراتها لحسابات مصالح معقّدة.
والسؤال الأهم: متى تنتصر الشعوب في المعادلة، داخل إيران وخارجها، على لعبة الشعارات والوصايات؟

سلسلة: دولة تحت المجهر

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡