
1. إرث الانقلابات: حين يُدار البلد بالبزات العسكرية
شهدت تايلاند أكثر من عشرة انقلابات عسكرية منذ بداية القرن العشرين، وكان آخرها في 2014 حين استولى الجنرال "برايوت شان أوتشا" على الحكم. ومنذ ذلك الحين، حافظ الجيش على قبضته، وإن ارتدى عباءة الانتخابات. هذا التكرار الانقلابي زرع في الوعي التايلاندي فكرة أن الديمقراطية دائمًا مشروطة، وأن التغيير السياسي لا يُصنع عبر صناديق الاقتراع، بل من خلال تحالفات القصر والعسكر.
2. ملكية غامضة ذات أنياب دستورية
رغم أن النظام في الظاهر ملكي دستوري، فإن المؤسسة الملكية تتمتع بنفوذ كبير وغير مُساءَل، يتغلغل في الجيش والقضاء والإعلام. الملك الحالي "ماها فاجيرالونغكورن"، بخلاف والده الذي كان يحظى باحترام واسع، يُعد شخصية مثيرة للجدل بسبب نمط حياته وتصرفاته، إلا أن القانون التايلاندي يجرّم أي نقد للملك، حتى لو كان تلميحًا.
3. الاقتصاد بين السُياح والظلّ
يشكل قطاع السياحة ما يقرب من 20% من الناتج المحلي، ما يجعل تايلند رهينة للتقلبات العالمية، كما ظهر بوضوح خلال جائحة كوفيد-19. إلى جانب ذلك، ينشط "الاقتصاد الرمادي" في قطاعات مثل الدعارة والمقامرة والعمل غير النظامي، ما يساهم في نمو غير مستقر، وغير عادل التوزيع.
4. الديمقراطية المزيفة: انتخابات تحت وصاية الجيش
صُمّمت القوانين الانتخابية بما يضمن استمرار هيمنة العسكريين وحلفائهم، حتى وإن خسروا أصوات الشباب. فالدستور يمنح مجلس الشيوخ المُعيَّن من الجيش صلاحيات واسعة، تعرقل قدرة البرلمان المنتخب على تشكيل حكومة تمثّل إرادة الشعب. التجربة الانتخابية في 2023 كانت نموذجًا لذلك الانسداد السياسي.
5. الشباب في مواجهة المؤسسة
أظهرت حركات احتجاجية شبابية، خاصة في 2020، جرأة غير مسبوقة في كسر التابوهات، ورفع مطالب بإصلاح النظام الملكي. هذا التحدي واجهته الدولة بالقمع والاعتقالات، لكنه كشف هشاشة الهيبة التقليدية، وعمق الشرخ بين الأجيال.
6. تايلاند في الجغرافيا السياسية: مَيلٌ للغرب... وودٌ للصين
رغم تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة، خاصة في المجال العسكري، عززت تايلند علاقاتها بالصين اقتصاديًا، دون أن تصطف استراتيجيًا معها. هذا التوازن يُعد انعكاسًا لسياسة براغماتية تخشى من الانحياز التام لأي طرف، في منطقة آسيوية مضطربة.
7. الفجوة الطبقية والريف المنسي
يتمركز النفوذ الاقتصادي والسياسي في العاصمة بانكوك والنخب المرتبطة بالمؤسسة الملكية، بينما يعاني الريف الشمالي الشرقي من التهميش التنموي. هذا الخلل الجغرافي يُنتج توترًا سياسيًا مستمرًا، عبر صعود حركات تمثّل "الأغلبية المهمشة".
8. المستقبل: بين الانفتاح والانفجار
من جهة، تسعى تايلاند لجذب استثمارات أجنبية وتحقيق استقرار سياسي، ومن جهة أخرى، تتآكل شرعية النظام أمام جيل شاب لا يرضى بالخضوع للرموز القديمة. إن استمرار القمع وانعدام الإصلاح قد يقودان إلى اضطرابات أعمق، ما لم يتم الاعتراف الجاد بمطالب التغيير.
خاتمة
ليست تايلند مجرد نموذجٍ لاقتصاد سياحي صاعد، بل هي مرآة لتحديات التحوّل من هامش الجغرافيا إلى مركز الفعل الإقليمي. فبين التوازنات مع الصين وأمريكا، والصراع بين المؤسسة الملكية والديمقراطية الشعبية، وبين التنمية والانكشاف أمام رؤوس الأموال، تمضي البلاد فوق حبل دقيق مشدود. والسؤال الأهم يبقى: إلى أي مدى تستطيع تايلاند الحفاظ على سيادتها السياسية والاجتماعية في ظل هذا التداخل بين السياحة، والمال، والنفوذ الخارجي؟
سلسلة: دولة تحت المجهر