دولة تحت المجهر: فيتنام – كيف تحوّلت أرض الجحيم الأمريكي إلى بوابة التوازن الآسيوي؟

بلدٌ هزم الولايات المتحدة عسكريًا، ثم اجتذبها اقتصاديًا. كيف استطاعت فيتنام أن تنتقل من نموذج الدمار الشامل إلى لاعب أساسي في معادلة آسيا؟ وأي توازنات تُديرها هانوي بين الصين وأمريكا؟ ما سرّ الصمت الصيني على صعودها؟ وهل تنجح فيتنام في الحفاظ على استقلال قرارها؟ هذا ما سنحلله في هذا المقال.

1. من ساحة دمار إلى معجزة تنموية

فيتنام كانت عنوانًا للحرب الطويلة، ولكنها اليوم باتت عنوانًا لنمو اقتصادي مثير. بعد عقود من الحصار والتدمير الأمريكي، بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي رحلة تحول اقتصادي هادئ يعتمد على الانفتاح، الصناعة، والتعليم. وبعكس دول أخرى، حرصت فيتنام على أن لا تفرّط في سيادتها السياسية رغم جذبها للاستثمارات الأجنبية.

2. الصين... شريك أم تهديد؟

العلاقة بين فيتنام والصين ليست فقط حدودية أو تاريخية، بل استراتيجية معقدة. فبينما تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لفيتنام، تشكل أيضًا تهديدًا مباشرًا بسبب النزاع في بحر الصين الجنوبي. فيتنام تتعامل مع بكين بمزيج من الحذر والانفتاح، فترفض الانخراط في المحور الأمريكي بشكل مباشر، لكنها لا تتردد في شراء الأسلحة من الغرب كنوع من الموازنة.

3. لماذا تهتم أمريكا بفيتنام؟

الولايات المتحدة ترى في فيتنام قاعدة استراتيجية جديدة في وجه تمدد الصين. لكنها تدرك أن هانوي ليست حليفة بالمعنى التقليدي، بل لاعب مستقلّ، يعرف متى يُظهر التودد، ومتى يضع الخطوط الحمراء. الإدارة الأمريكية تحاول جذب فيتنام بسلاسل التوريد والتكنولوجيا، في محاولة لتقليص اعتمادها على الصناعة الصينية.

4. نموذج جديد في الاشتراكية الاقتصادية

فيتنام تقدم اليوم نموذجًا خاصًا من الاشتراكية المنفتحة على السوق، حيث بقي الحزب الشيوعي في السلطة، لكنه أفسح المجال للقطاع الخاص والمبادرات الفردية. هذا الخليط أتاح استقرارًا سياسيًا مع نمو اقتصادي ملحوظ، دون أن تقع البلاد في فوضى الليبرالية المفرطة كما حصل في دول أخرى.

5. بحر الصين الجنوبي... خط التماس الأخطر

النزاع في بحر الصين الجنوبي هو أخطر نقاط التوتر بين فيتنام والصين. ورغم أن بكين تسيطر فعليًا على معظم الجزر، إلا أن فيتنام تواصل بناء تحالفات بحرية بهدوء، وتزيد من قدراتها الدفاعية البحرية. لكنها في الوقت نفسه تتجنب استفزاز الصين علنًا، في سياسة تُعرف بـ"الصراع الصامت".

6. الداخل الفيتنامي: لا ديمقراطية ولكن لا فوضى

سياسيًا، لا تُصنّف فيتنام كدولة ديمقراطية، ولكنها ليست دولة قمع شامل أيضًا. المشهد الداخلي يخضع لسيطرة الحزب الحاكم، مع هامش حرية نسبي في الاقتصاد والثقافة. وهذا النموذج سمح بتحقيق استقرار نسبي دون السقوط في دوامة الانقلابات أو التحريض الفوضوي.

7. الصناعة بدلًا من النفط

بعكس دول أخرى بنت اقتصادها على النفط أو المواد الخام، ركزت فيتنام على الصناعة والإلكترونيات والملابس والنسيج. ونجحت في جذب شركات كبرى مثل "سامسونغ" و"إنتل" لتفتح مصانعها فيها. وهذا أعطى الاقتصاد الفيتنامي مرونة وقدرة على النمو رغم التوترات العالمية.

8. لعبة التوازن الذكية

فيتنام تمارس سياسة خارجية شديدة الذكاء: لا تصطفّ مع أحد، ولا تعادي أحدًا بشكل مباشر. ترفض التبعية للصين، لكنها لا تعاديها. تنفتح على أمريكا، لكنها لا تدخل في تحالفات عسكرية رسمية. وهذا ما يجعلها اليوم لاعبًا مهمًا في "الهندوباسيفيك" دون أن تكون أداة في يد أحد.

خاتمة

قد تكون فيتنام دولة صغيرة جغرافيًا، لكنها باتت كبيرة في حسابات آسيا الجيوسياسية. تجاوزت جراح الحرب، وصاغت لنفسها نموذجًا اقتصاديًا وسياسيًا يُصعب تكراره. وبين الصين وأمريكا، تختار فيتنام ألا تختار، بل تخلق مساحتها الخاصة. والسؤال المفتوح هو: هل تستطيع هانوي الحفاظ على هذه المعادلة الدقيقة في ظل التحولات القادمة؟

سلسلة: دولة تحت المجهر

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡