الممالك العربية القديمة: مملكة لحيان: حين حكم العرب شمال الحجاز قبل النبط

قبل أن يسطع نجم الأنباط في البتراء، كانت هناك مملكة عربية تسيطر على قلب الحجاز الشمالي، مركزها العُلا، وتُعرف باسم مملكة لحيان. لم تكن مجرد محطة قوافل، بل كيان سياسي بثقافة مميزة واقتصاد مزدهر، شكّلت جسراً بين حضارات الجنوب واليمن، وبين الشام والعراق. لكن لماذا تراجعت، ومن ورث إرثها؟ وهل كانت لحيان فعلاً نواة عربية خالصة أم مزيجاً حضارياً؟ هذا ما نحاول تفكيكه في هذا المقال.

حين خمد نجم مملكة دادان في العُلا، لم يكن الفراغ طويلًا، فقد ورثتها مملكة لحيان، التي برزت كقوة محلية جديدة تحمل مشروعًا أكثر تنظيمًا وطموحًا في شمال غرب الجزيرة العربية، بين القرن السادس والثاني قبل الميلاد.

لم تكن لحيان مجرد امتداد لدادان، بل أعادت تشكيل البنية السياسية والاجتماعية للمنطقة، وابتكرت نظام حكم ملكي واضح المعالم، مع تسلسل إداري وهيكلي يدل على تطور مفاهيمي في إدارة المدن والموارد. تركت هذه المملكة خلفها نقوشًا لحيانية غزيرة، توثق أسماء ملوكها وتاريخ صراعاتها، وتكشف عن تفاعلها مع محيطها الأوسع، من الأنباط شمالًا، إلى حضارات الجنوب العربي.

اقتصاديًا، سيطرت لحيان على طرق القوافل، فربطت بين البخور القادم من الجنوب، والبضائع المتجهة نحو الشمال والشام، وكان لموقعها في العُلا أهمية استراتيجية قصوى، مكّنتها من التحكم في مفاصل التجارة القديمة.

لكن مع تقدم الأنباط وتوسع نفوذهم، بدأت مملكة لحيان تتراجع، إلى أن ابتلعها المد النبطي في القرن الثاني قبل الميلاد، لتصمت نقوشها، ويبقى أثرها محفورًا على جدران العُلا، وشواهدها شاهدة على حضارة أفل نجمها، لكنها لم تُنسَ.

النشأة والامتداد: بين العُلا والخطوط التجارية

نشأت لحيان في المنطقة الممتدة من العُلا إلى مناطق من شمال الحجاز، قرب الطريق التجاري الهام المعروف بـ"درب البخور"، والذي يربط اليمن بالأنباط وسواحل الشام. وتشير النقوش إلى أن حكمهم بدأ في حدود القرن السادس قبل الميلاد، وامتد لأكثر من 400 عام.

كانت العاصمة دادان (وهي اسم العُلا القديم) مركزًا حضاريًا متطورًا، واحتوت معابد ومقابر منحوتة في الجبال، بأسلوب يُظهر تلاقحًا بين الفن المعيني والآرامي.

اللغة والهوية: عرب قبل العروبة السياسية

النقوش اللحيانية المكتشفة مكتوبة بلغة سامية تُعرف باللحيانية، وهي قريبة من الخط المسند الجنوبي، لكنها تحمل طابعًا خاصًا يدل على نشوء لهجة عربية مبكرة. هذه النقوش، التي دوّنت أسماء ملوك، وطقوس دينية، وقوانين مدنية، تكشف عن مجتمع منظم بملامح عربية واضحة، قبل أن تتبلور العروبة كهوية سياسية جامعة.

الديانة والنظام السياسي: ملك يحكم باسم الآلهة

كان النظام ملكيًا، يتوارثه ملوك يُطلق عليهم "ملك لحيان"، وتظهر أسماء بعضهم في النقوش مثل الملك هُسام. وكانت السلطة مرتبطة بالمعتقد الديني، حيث تُعبد آلهة مثل ذو غابة وكاهل، ما يعكس تشابهًا مع أنظمة الحكم التي تمزج الدين بالشرعية السياسية، كما في ممالك اليمن القديمة.

العلاقة بالأنباط: صعود الأنباط سقوط لحيان؟

تشير الأدلة إلى أن لحيان تراجعت لصالح صعود مملكة الأنباط، التي استولت على طرق التجارة وتمدّدت نحو ددان. لكن هل دمّر الأنباط لحيان أم احتووها ثقافيًا؟ المرجح أن نهاية لحيان لم تكن نتيجة غزو مباشر، بل نتيجة تآكل اقتصادي وانقلاب في موازين القوى.

إرث لحيان: هل انتهت فعلًا؟

رغم أفولها، تركت لحيان أثرًا عميقًا في اللغة والفن والنقوش. وبعض القبائل العربية في شمال الحجاز تدّعي نسبًا إلى لحيان. كما أن بقاياها في العُلا ما تزال تُدهش علماء الآثار، وتعيد رسم خريطة ما قبل الإسلام، حيث لم تكن الصحراء العربية خالية، بل مليئة بممالك ناطقة بالعربية وذات طابع حضاري متقدم.

خاتمة:

ليست لحيان مجرد اسم على نقشٍ قديم، بل شهادة تاريخية على أن العرب حكموا الحجاز قبل الإسلام بقرون، بهوية لغوية وسياسية واضحة. تراجعت مملكة لحيان لكن إرثها بقي شاهدًا على أن التاريخ العربي في الجزيرة لم يبدأ بالنبط أو بالإسلام، بل ضاربٌ في عمق الجغرافيا والزمن.


وصف الصورة: صورة واقعية لمدافن دَدَان في العُلا، منقوشة في الجبل بلون رملي ذهبي، مع سماء زرقاء صافية، وتظهر ممرات ضيقة توحي بعمق المدينة القديمة.

سلسلة: الممالك العربية القديمة

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.