لطالما كانت الجامعات منابر للمعرفة والفكر المستقل، تشكل فضاءات للتنوير والنقد الحضاري. إلا أن واقع التعليم العالي في العقود الأخيرة يشهد تحوّلاً استراتيجيًا عميقًا، حيث بدأت هذه المؤسسات تتحول إلى أدوات فعالة للنفوذ الجيوثقافي، تُوظّف ليس لخدمة الفكر الحر، بل لتعزيز مصالح المحاور الكبرى في الصراع الدولي على السلطة والهيمنة.
الجامعات: فضاءات محايدة أم ساحات صراع أيديولوجي؟
الزعم بكون الجامعات مستقلة عن السياسة بات هشًا في ظل تحوّل تمويلها وتوجهاتها الأكاديمية. تدفقات الأموال تأتي اليوم من دول، مؤسسات، وشبكات ذات أهداف استراتيجية واضحة، تهدف إلى توجيه المناهج، بحوث الفكر، وحتى تشكيل رؤى الطلاب، بما يخدم مصالح هذه الجهات.
التمويل المشروط يفرض آليات رقابة ضمنية وصريحة، تحول الجامعات من مراكز تعليم إلى منابر للنشر الممنهج لقيم وأفكار تتماهى مع السياسات الخارجية للدول الممولة.
أدوات النفوذ الجيوثقافي: البرامج الدراسية، البحوث، والتبادل الأكاديمي
تتضمن أدوات النفوذ مجموعة متكاملة من السياسات:
- تصميم المناهج: توجيه محتوى التدريس ليعكس سرديات معينة، يغيب عنها السياق المحلي أو وجهات نظر معاكسة.
- تمويل البحوث: دعم مشاريع بحثية تخدم مصالح جيوسياسية معينة، وتهمش الأبحاث النقدية أو البديلة.
- برامج التبادل: ترويج تبادل الطلاب والأكاديميين بشروط تعزز التبعية الفكرية، وتخلق شبكة ولاء ثقافي مع المحاور الكبرى.
الهيمنة عبر الثقافة: فرض القيم والتصورات
تأتي الجامعات كجزء من منظومة أوسع تشمل الإعلام، الفن، والمؤسسات الدولية، لتشكيل وعي عالمي موحّد يُعلي من قيم الليبرالية الغربية، الديمقراطية النمطية، والرأسمالية السوقية.
هذا الوعي الموحد يعمل على تطبيع الهيمنة السياسية والاقتصادية، ويخلق مناخًا عالميًا يصعب فيه مقاومة التدخل الخارجي تحت ذريعة "العولمة" و"الحقوق الإنسانية".
المقاومة الأكاديمية: جبهات صراع داخلية وخارجية
في مواجهة هذه التحولات، برزت أصوات نقدية وأكاديمية تطالب باستعادة استقلال الجامعات، وتطوير مناهج نقدية تسلط الضوء على التجارب المحلية والهويات الوطنية والثقافية.
لكن هذه الجهود غالبًا ما تواجه صعوبات تمويلية، سياسية، وقانونية، مع محاولات متكررة لاستبعاد الأكاديميين المستقلين، واحتكار الخطاب التربوي من قبل الجهات الممولة.
خاتمة: الجامعات بين أدوار التعليم والهيمنة
التعليم العالي لم يعد فقط وسيلة لتكوين المعرفة، بل بات معركة جيوثقافية تُدار عبر استثمار الوعي وصياغة العقائد الفكرية التي تتحكم في موازين القوى الدولية.
فهم هذا التحول ضروري لفك شفرة أدوات النفوذ الحديثة، وللسعي نحو تعليم أكثر استقلالية ومقاومة، يحفظ للجامعات دورها الأصلي كمصانع للإبداع النقدي والتحرر الفكري.