قراءة في استراتيجيات طهران بين الخطاب الأيديولوجي والتحالفات البراغماتية

لطالما شكّل شعار "المقاومة" جوهر الخطاب الرسمي الإيراني منذ الثورة الإسلامية عام 1979، حيث جرى تسويقه كإطار سيادي يعبّر عن رفض الخضوع للهيمنة الغربية، وخصوصًا الأمريكية. لكن ما يلفت الانتباه اليوم هو هذا التغيّر الصامت والمتدرّج في سلوك طهران، خاصة بعد انضمامها رسميًا إلى منظمة شنغهاي، واندفاعها المتزايد نحو التكتلات الاقتصادية الأوراسية. فهل نحن أمام إعادة تموضع حقيقية؟ أم مجرد براغماتية ظرفية؟
التحول من العقيدة إلى التوازن: قراءة في الاتجاه الجديد
لا يمكن فهم التحولات الإيرانية خارج سياق الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تعرّضت لها البلاد بعد العقوبات الأمريكية المتتالية، وخسارة عملتها لأكثر من 80% من قيمتها في عقد واحد. أمام هذا الانهيار البنيوي، بات من الصعب استمرار طهران في الاكتفاء بالشعارات الأيديولوجية، خصوصًا بعدما أصبحت الصين وروسيا بوابة شبه وحيدة نحو التجارة والاستثمار وتجاوز العقوبات.
التحوّل بات واضحًا في خطاب الدبلوماسية الإيرانية. فبدلًا من شعار "لا شرقية ولا غربية"، باتت طهران تتحدّث عن "نظام عالمي تعددي" و"التحوّل نحو الشرق". هذه العبارات تعبّر عن خطاب براغماتي جديد لا ينفي الأيديولوجيا، لكنه يوظفها لتبرير الانعطافات التكتيكية.
منظمة شنغهاي: منصة أمنية أم معبر اقتصادي؟
قمة شنغهاي الأخيرة مثّلت علامة فارقة، ليس فقط لانضمام إيران كعضو دائم، بل لكونها تكشف تحوّلاً في نوع الحلفاء وشكل التحالف. فهذه المنظمة ليست تكتلًا ثوريًا، بل محورها الأساسي هو المصالح الاقتصادية والتنسيق الأمني الإقليمي، بعيدًا عن خطاب المقاومة.
إيران تنظر لشنغهاي باعتبارها فرصة لفك العزلة، وتطمح لأن تكون حلقة وصل للطاقة والبنى التحتية في مشروع الحزام والطريق الصيني. لكن هذا يتطلب التزامات جديدة: استقرار داخلي، تبريد الجبهات الإقليمية، وتخفيف الخطاب الثوري، وهي أمور قد تتناقض جذريًا مع شعاراتها القديمة.
هل تنقلب أدوات النفوذ؟
طهران بنت نفوذها الإقليمي على أذرع عسكرية غير نظامية وشبكات عقائدية تدور حول فكرة "الممانعة"، لكن في النظام العالمي الجديد الذي تتصدره بكين وموسكو، هذا النموذج لم يعد عملة مقبولة. الصين تحديدًا تتبنى مبدأ "التجارة لا العقيدة"، وتتحاشى التورط في صراعات مذهبية أو دعم محاور عسكرية خارجية.
هنا تبرز المعضلة: هل تُبقي إيران على أدواتها التقليدية، أم تدخل مرحلة إعادة هيكلة استراتيجية؟ هذا السؤال يزداد إلحاحًا في ظل تنامي التوتر بين طهران وبعض أذرعها بسبب التضارب بين المصالح الاقتصادية والاستراتيجيات العسكرية.
المفارقة الإيرانية: خطاب مضاد للغرب... بمنظومة شرقية رأسمالية
في العمق، يبدو أن إيران بدأت تنحو إلى نوع من "المقاومة الاقتصادية"، لكن عبر أدوات رأسمالية شرقية، وليس عبر الاقتصاد المقاوم بالمعنى الكلاسيكي. والمفارقة هنا أن الخطاب الذي ظل يهاجم الغرب بسبب الليبرالية والهيمنة الاقتصادية، يتجه اليوم لتحالفات مع دول تمارس الشكل نفسه من التمدد ولكن تحت شعار "التعددية".
التحالف مع روسيا المأزومة والصين التوسعية يحمل وعودًا، لكنه أيضًا يقلّص هامش المناورة السيادي لطهران. فكل انخراط في المشاريع الأوراسية يتطلب تنازلات تنظيمية واقتصادية، بدءًا من نظام الدفع ووصولًا إلى الشفافية والتنسيق الأمني.
خاتمة: مقاومة منزوعة المخالب أم براغماتية ذكية؟
التحول الإيراني ليس تخليًا تامًا عن "شعار المقاومة"، بل هو أشبه بمرحلة إعادة تأطير لهذا الشعار ليتوافق مع النظام العالمي الجديد. لكن هذا التأطير قد يُفقد الشعار معناه الجذري، ويحوّله إلى مجرّد واجهة داخلية لتسكين المعارضة المحلية.
وفي المحصلة، يبقى السؤال الأهم:
هل تستطيع إيران أن تحافظ على استقلال قرارها في ظل ارتهانها المتصاعد لمحور أوراسي لا يقل شراهة في هندسة المصالح عن الغرب؟
أم أن التحول البراغماتي سيفتح بابًا جديدًا لتمكين اقتصادي فعلي، يُعيد ترتيب الأولويات دون إسقاط الهوية الثورية بالكامل؟