الديون السيادية: هل تُدار الدول العربية من وزاراتها أم من أسواق المال العالمية؟

في ظاهر الأمر، تبدو موازنات الدول العربية شأنًا داخليًا خالصًا تُديره وزارات المالية والبنوك المركزية. لكن الواقع يكشف أن كثيرًا من القرارات المالية الكبرى لم تعد تُصنع داخل حدود الدولة، بل في مكاتب مؤسسات دولية وبورصات السندات في لندن ونيويورك. الديون السيادية تحوّلت إلى أداة وصاية غير معلنة، تقيّد خيارات الحكومات، وتحوّل وزاراتها إلى منفذين لإملاءات الأسواق العالمية.

1. من الاستقلال السياسي إلى الارتهان المالي

الاستقلال الوطني الذي رفعته الدول العربية بعد حقبة الاستعمار لم يتجسد في الاستقلال المالي. فالعجز المزمن في الموازنات، وسوء إدارة الموارد، والاعتماد على النفط أو المساعدات، جعلت الديون الخارجية ضرورة حاكمة. ومع تراكمها، أصبح القرار المالي مرتهنًا لمستويات الفائدة العالمية، وتصنيفات وكالات الائتمان، وتقارير صندوق النقد والبنك الدولي.

2. أسواق المال كحكومة ظل

حين تصدر دولة عربية سندات دين في الأسواق العالمية، تصبح عرضة لتقلبات مزاج المستثمرين. فجملة واحدة من وكالة "موديز" أو "ستاندرد آند بورز" كفيلة بخفض التصنيف الائتماني، وبالتالي رفع كلفة الاقتراض. هنا تتضح المفارقة:

  • الوزير العربي يعلن عن خطة "تنمية وطنية"،
  • بينما تُقيّمها مؤسسات مالية دولية وفق مقاييس ربحية لا علاقة لها بالعدالة الاجتماعية أو الأولويات الوطنية.

النتيجة: تتكيّف الحكومات مع ما يريده المستثمر، لا مع ما يريده المواطن.

3. صندوق النقد: الوصفة الجاهزة

الاقتراض من صندوق النقد الدولي يعني قبول وصفات موحدة: رفع الدعم، خصخصة، تقليص الإنفاق الاجتماعي. كلها شروط تُقدَّم على أنها "إصلاح"، لكنها في الجوهر نقل لسيادة القرار الاقتصادي من الداخل إلى الخارج. المواطن هو من يتحمل العبء، بينما تتحسن مؤشرات السوق التي تراقبها المؤسسات المالية.

4. الوزارات الوطنية: واجهات تنفيذ

من الناحية الشكلية، وزارات المالية والبنوك المركزية تصدر القوانين وتضع الموازنات. لكن القرارات الجوهرية تُصاغ خارجها. وزراء المالية أنفسهم يعلنون بفخر أنهم يسيرون "وفق متطلبات الأسواق" أو "توصيات الصندوق"، ما يجعلهم مجرد وسطاء بين الشعب والمال العالمي.

5. النتيجة: سيادة منقوصة

  • المواطن يدفع الضرائب ويعاني من رفع الدعم.
  • الدولة تُعلن عن مشاريع "إصلاحية".
  • السوق العالمي هو الحكم الأخير الذي يمنح أو يمنع التمويل.

بهذا المعنى، إدارة الديون السيادية حوّلت كثيرًا من الدول العربية إلى كيانات مالية تابعة، حيث السيادة الاقتصادية لا تُمارس في العواصم، بل في بورصات المال العالمية.

الخلاصة النقدية

الديون السيادية ليست مجرد أرقام في جداول الموازنات، بل آلية جبر سياسي تعيد إنتاج التبعية بشكل جديد: وصاية مالية بدل الوصاية العسكرية أو الاستعمارية المباشرة. السؤال الحقيقي إذن: هل وزارات المالية العربية تُدير المال العام فعلًا، أم أنها تنفّذ سياسات صيغت منذ البداية خارج حدودها؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.