
حق تقرير المصير: تفكيك لا تحرر
يُقدَّم مصطلح "حق تقرير المصير" في الخطاب الغربي باعتباره أسمى تجليات العدالة السياسية والكرامة الإنسانية، وكأنّه مبدأ ثابت يدعو إلى تحرير الشعوب من الاستعمار وفرض السيادة الوطنية. لكن نظرة أكثر تمعّنًا في السياقات التي يُستخدم فيها، تكشف أنّ هذا المصطلح تحوّل في العقود الأخيرة إلى أداة سياسية تُوظّف بشكل انتقائي لزرع الفتن، وتفكيك الدول، وإشعال النزاعات الداخلية حين تخدم المصالح الغربية، بينما يتم تجاهله أو قمعه تمامًا حين يُطالب به شعب مناهض للهيمنة.
ازدواجية المعايير في تطبيق المفهوم
ففي حين تُرفع راية "حق تقرير المصير" في مناطق مُختارة بعناية، كذريعة لدعم الانفصال أو تدويل القضية، نجد أن شعوبًا تحت الاحتلال الصريح – كالشعب الفلسطيني – تُحرم من أبسط صور هذا الحق، ويُتهم كل من يدافع عنه بالتطرف أو معاداة السلام.
آلية التفجير الناعم
يُستخدم المصطلح غالبًا في الخطابات الأممية والحقوقية لإضفاء شرعية على مشاريع التقسيم الطائفي أو العرقي أو القبلي. في السودان، استخدم الغرب هذا المصطلح كغطاء لتقسيم البلاد إلى شمال وجنوب، ولم تلبث الحرب أن استعرت بين الفرقاء الجدد. وفي العراق وسوريا، أُعيد تدوير المفهوم لتبرير النزعات الانفصالية بحجج "الخصوصية الثقافية" أو "المظلومية التاريخية"، بينما في كتالونيا وكشمير، صُوّرت المطالب المشابهة بأنها تهديد لوحدة الدولة!
معيار القوة والمصلحة
"حق تقرير المصير" لا يُمنح اليوم بناء على مبدأ أو قانون، بل بناء على مَن يُطالب به، وفي أي سياق جيوسياسي. فإذا كانت الدولة المراد تقسيمها خارجة عن الطاعة الغربية، فالمصطلح يُصبح مقدّسًا وتُنفق الملايين لترجمته إلى تمويل ودعاية وتحريض. أما إذا كانت الدولة من "الحلفاء" أو تُدار بوصاية مباشرة، فالمطالبة بهذا الحق تُصنّف تمردًا، أو تطرفًا، أو إرهابًا.
من شعار تحرري إلى أداة تفجير داخلي
الوجه الأخطر لمصطلح "حق تقرير المصير" يكمن في توظيفه كأداة لإحياء الانقسامات الطائفية والإثنية في الدول المستهدفة، لا بوصفه تعبيرًا عن الإرادة الشعبية، بل كوسيلة لإشعال الفتن الداخلية. فحين يُستدعى هذا الشعار في سياقات تحمل جذورًا تاريخية من التوتر القبلي أو الديني أو العرقي، يتم شحنه برمزية تفجيرية. يتحول عندئذٍ من مبدأ سياسي إلى لغم جغرافي يُزرع داخل الجسد الوطني ليفجّره من الداخل.
أداة تمزيق لا أداة تحرر
لا تُستخدم هذه الورقة غالبًا من أجل تحرير مظلوم، بل لتمزيق وطن. إذ تُغذّى الجماعات الإثنية بمظلومية انتقائية، وتُمنح منصات إعلامية ودعمًا دوليًا، في حين تُمارس ضغوط هائلة على الدولة المركزية لانتزاع "الاعتراف"، مما يخلق بيئة مشروعة للانفصال والتقسيم، خصوصًا حين تتزامن مع ضعف داخلي أو فوضى أمنية.
نماذج حية لتفكيك الأوطان
لقد كانت البوسنة وكوسوفو والعراق والسودان، ثم ليبيا وسوريا واليمن، نماذج حيّة على كيف يمكن لمصطلح يبدو إنسانيًا أن يُعاد تدويره في أروقة المخابرات الدولية، ليصبح مدخلًا إلى "إعادة هندسة المنطقة" وفق خرائط سايكس بيكو جديدة، يُعاد فيها تشكيل الكيانات السياسية على أسس إثنية ومذهبية، لا وطنية أو مدنية.
الغاية الحقيقية: هندسة التفكك تحت غطاء الحقوق
إنّ استدعاء "حق تقرير المصير" في العالم العربي لم يكن يومًا بريئًا. فالغاية لم تكن إنصاف الأقليات، بل استخدامهم كأدوات ضغط، ثم كذريعة لتفتيت الأوطان، وإعادة إنتاج كيانات هشة يسهل التحكم بها. هذا المصطلح، حين يُسلَّم لمختبرات الاستراتيجيا الغربية، لا يُنتج عدالة، بل خرائط جديدة مليئة بالكُتل المتناحرة. وهكذا يتحوّل المبدأ من قيمة تحررية إلى فخ استعماري، يُقسّم الدول إلى طوائف وقبائل وإثنيات، ثم يُعاد تدويرها ضمن منظومة تبعية كاملة، تحت مسمى "الاعتراف الدولي".
حق تقرير المصير أم تفجير المصير؟
إنه ليس "حق تقرير المصير" بقدر ما هو "حق تفجير المصير".
الخلاصة
إن ما يسمى بـ"حق تقرير المصير" ليس سوى واحدة من مجموعة مصطلحات براقة تُستخدم كأقنعة ناعمة لتمرير مشاريع الهيمنة. إنه جزء من قاموس هندسة التفكك، حيث تتحوّل الحقوق إلى أدوات، والمبادئ إلى فخاخ. فالمسألة لا تتعلق برغبة حقيقية في تحرير الشعوب، بل في تفجير وحدتها من الداخل، عبر بعثرة الهويات، وتفخيخ الخرائط، وتشجيع الأقليات على التمرد، ثم تقديم الدعم الإعلامي والديبلوماسي الغربي تحت ستار "الحرية". وهكذا، يُعاد إنتاج الاستعمار بوسائل لغوية وقانونية، ويُعاد رسم حدود المنطقة وفق مشيئة القوى الكبرى.
إن كشف زيف هذا المصطلح ليس مجرد تمرين لغوي، بل ضرورة استراتيجية لكل أمة تريد أن تحصّن وعيها، وتصون وحدتها، وتفكك آليات التدخل في شؤونها باسم الحقوق.