
من يُدير السياسات الداخلية للدول الضعيفة؟
هل القرارات المصيرية تُصاغ في البرلمان المحلي أم في مكاتب السفارات الأجنبية؟
في العديد من الدول الخاضعة للنفوذ الخارجي، لم تعد الحدود الفاصلة بين مؤسسات الدولة والسفارات الأجنبية واضحة. بل أصبح النفوذ الأجنبي يتغلغل تحت عباءة التعاون، وداخل أروقة "الدعم الفني"، وواجهات "الدبلوماسية الناعمة".
فأين تنتهي الدولة إذًا، وأين تبدأ السفارة؟
دولة على الورق.. وسفارة في العمق
في الأنظمة الشكلية، يبدو المشهد وكأن الدولة تحكم وتقرر، لكن نظرة أدق تكشف أن الملفات السيادية (الأمن، الاقتصاد، التعليم، الإعلام، القضاء...) كثيرًا ما تُدار من وراء الكواليس عبر مشورة خارجية، أو ضغوط "ودية"، أو تدخلات صريحة.
بعض العواصم لا تُصدر قراراتها الكبرى دون استشارة السفارة، بل قد تنتظر "الموافقة" الصامتة من موظف في السفارة قبل تمرير قانون أو تعيين مسؤول.
السفارة تتحول هنا من تمثيل دبلوماسي إلى مركز قرار فعلي، والدولة تتحول إلى منفّذ لا أكثر.
التبعية عبر "الاتفاقيات"
ليست كل وصاية استعمارًا مباشرًا، بل كثيرًا ما تُبرم في قاعات الفنادق الفاخرة:
- اتفاقيات أمنية تُجيز تدريب قوات محلية بأيدٍ أجنبية.
- اتفاقيات تعليمية تُدخل المناهج الأجنبية للمدارس بدعوى "التحديث".
- اتفاقيات اقتصادية تُلزِم الدول بسياسات تحدّ من استقلالها المالي.
كل ذلك يجري باسم "الشراكة"، لكن النتيجة هي تفكيك القرار الوطني وربطه بمراكز قوى خارجية، غالبًا ما تُدار من داخل السفارة نفسها.
المساعدات كأدوات تحكم
حين تُمنح المساعدات المشروطة، يتحول المتلقّي إلى تابع لا شريك.
السفارات الغربية تموّل مشاريع "تنمية"، وتدعم منظمات "مدنية"، وتدرب كوادر "محلية"، لكنها في الواقع تصنع شبكة تأثير عميقة تُعيد هندسة الدولة من الداخل.
منظمات محلية تعتمد في تمويلها على السفارات.
وسائل إعلام محلية تتلقى دعمًا مشروطًا.
مؤسسات تعليمية تُغيّر مناهجها لتنال رضا المموّلين.
وهكذا، يتم التحكم بالدولة عبر شبكة تمويل لا تُرى، لكنها فعّالة أكثر من أي احتلال عسكري.
الموظف الظلّ: المستشار الأجنبي
في بعض الوزارات السيادية، يكون "الخبير الأجنبي" هو من يُعدّ الخطط، ويُراجع السياسات، بل ويوجه الموظفين التنفيذيين.
في حالات كثيرة، يتخذ القرار بناءً على توصية من "خبير مقيم" ممثّل للسفارة أو منظمة غربية، دون أن يُحاسب أو يُذكر اسمه.
هذا المستشار ليس موظفًا عامًا، لكنه أكثر نفوذًا من الوزير نفسه.
إنها طبقة جديدة من التحكم، تُمارس بلباقة، دون ضجيج، لكنها تفكّك السيادة من داخل مؤسسات الدولة.
حين يُرسم مستقبلك في اجتماع سري
ليس خيالًا أن تُحسم ملفات انتقال السلطة، وتغيير القوانين، والتعديل الدستوري، وحتى تعيين الوزراء في اجتماعات مغلقة بين مسؤولين محليين ومبعوثين أجانب داخل مبنى السفارة.
ليس تدخلًا طارئًا، بل نمطًا مستقرًا في إدارة الدول الخاضعة للوصاية.
في هذه الحالة، لا تكون السفارة مجرد ضيف على الدولة، بل تكون هي "الدولة" الفعلية، فيما تتحول الوزارات المحلية إلى مكاتب تنفيذ.
في نهاية المطاف، لم تعد السيادة تُسلب بالدبابات، بل بالمذكرات الدبلوماسية، والمساعدات المشروطة، والبعثات التقنية.
وهكذا، يصبح السؤال ليس عن حدود الجغرافيا، بل عن حدود القرار: من يقرّر فعليًا، ومن ينفّذ فقط؟