
الرفاهية لا تملأ الزمن
المال، بقدرته الهائلة على فتح الأبواب، لا يستطيع أن يُبقي الزمن مشغولًا بالمعنى.
في عالمٍ يستطيع فيه الإنسان أن يسافر متى شاء، ويأكل ما يشاء، ويشتري ما يخطر على باله، تصبح كل لحظة "متاحة" بلا مجهود، فيفقد الزمن عنصره الأكثر قيمة: الترقّب، والمكابدة، والإحساس بالندرة.
اللحظات تُستهلك، لكنها لا تُثمر، وكأن الإنسان يعيش في آلة تُعيد إنتاج نفس اليوم بلغة الرفاهية، لكن بدون هدف.
موت الحافز: حين لا تبقى حاجة
الحافز لا يُولد من الرفاهية، بل من الحاجة.
ففي غياب النقص، لا يعود هناك ما يستدعي التقدّم أو النمو.
الزمن يصبح مسطّحًا، بلا تضاريس. لا تحدٍّ يكسر الرتابة، ولا انتظار يشعل الحماسة.
هنا، تنشأ حالة وجودية قاسية: ليس الألم، بل اللاشيء.
وذاك اللاشيء أكثر فتكًا من كل وجع، لأنه يترك الإنسان وحيدًا أمام السؤال الأكبر: لماذا أعيش؟
الفراغ الوجودي: اغتراب بلا معاناة
الغريب في هذا النمط من الاغتراب أنه لا ينبع من الوجع، بل من غياب الوجع.
الإنسان المترف لا يفتقد شيئًا ملموسًا، لكنه يفتقد المعنى.
والمعنى لا يُشترى، ولا يُستورد، ولا يُحفظ في خزنة.
إنه يُولد من العلاقة بين الإنسان والزمن، بين التحدي والاستجابة، بين الحاجة والفعل.
وحين تنكسر هذه العلاقة، يتحول الزمن إلى هواء كثيف، شفاف، لكنه يخنق.
مقاومة السأم: عودة إلى الإنسان
بعض من يخوضون تجربة الملل الطويل يبدأون رحلة البحث: لا عن شيء جديد، بل عن شيء حقيقي.
ربما في الفن، أو العمل التطوعي، أو التأمل، أو حتى في التواضع اليومي للحياة البسيطة.
لكن هذا المسار يتطلب شجاعة: أن تُواجه نفسك دون ملهيات، وأن تتحمل مرآة الزمن حين لا تُخبئك مشاغل أو مظاهر.
ذلك اللقاء الداخلي المؤلم قد يكون أول لحظة وعي حقيقي، أول شرارة خروج من قفص الثراء الصامت.
الزمن ككاشف: من أنت عندما لا تحتاج شيئًا؟
الزمن الخالي يضع الإنسان في مواجهة مع ذاته العارية.
لا هروب، لا دور اجتماعي، لا طقوس استهلاك تُشغله.
حينها فقط، تنكشف الطبقات الأعمق من النفس: من نحن عندما لا يطلب منا شيء؟ من نكون عندما لا يضغطنا الوقت أو الجوع أو الحاجة؟
تلك اللحظة إما أن تسحقك... أو تحرّرك.
خاتمة: أن تُعيد المعنى إلى الزمن
الملل في زمن الرفاهية ليس دليل راحة، بل إنذار وجودي.
هو صرخة غير مسموعة تقول: "لقد وصلت، لكنك لم تجد نفسك".
والتحرر منه لا يكون بمزيد من الاستهلاك، بل بإعادة صياغة العلاقة مع الزمن، ومع الذات.
فلا معنى للوقت إن لم يكن وعاءً لمعنى أعمق، ولا حياة تُعاش بصدق إن لم نعد نعرف لماذا نريد أن نستيقظ كل صباح.