الضحايا الذين صاروا جلادين: نقد الوعي الجمعي الإسرائيلي

تفكيك الموروث الأخلاقي المزعوم، وكشف تناقضات الدعاية الإسرائيلية

في التاريخ الإنساني، تتكرر ظاهرة لافتة: طرف كان ضحية للظلم، يحظى بتعاطف وتعويض ودعم عالمي، لكنه بعد أن يستعيد قوته يتحول إلى فاعل للظلم نفسه الذي عانى منه. حين يحدث هذا، ينقلب ميزان التعاطف رأسًا على عقب، ويتبدد الرصيد الأخلاقي الذي بناه عبر مأساته السابقة.
إسرائيل مثال حي لهذه الظاهرة، حيث انتقلت من رمز للاضطهاد التاريخي إلى فاعل أساسي في منظومة احتلال وقمع مستمرة ضد الفلسطينيين.

التعاطف لا يُمنح إلى الأبد

التعاطف الإنساني ليس شيكًا مفتوحًا، بل هو موقف مشروط بالاستمرار في الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي بررت هذا التعاطف في البداية.
اليهود في القرن العشرين كانوا ضحايا لجرائم مروعة، أبرزها المحرقة النازية، مما أكسبهم دعمًا واسعًا من شعوب العالم وحكوماته. لكن هذا الدعم لم يكن قائمًا على فكرة التفوق أو الحصانة الأخلاقية المطلقة، بل على أساس حقهم في الحياة والكرامة.
عندما يتحول الضحية إلى جلاد، فإن الذاكرة الإنسانية تعيد تقييمه، وتضعه في خانة جديدة تمامًا.

إسرائيل: من المأساة إلى صناعة المأساة

بعد تأسيس الدولة العبرية عام 1948، لم تكن المأساة الفلسطينية مجرد "أثر جانبي" للنزاع، بل كانت نتيجة مباشرة لسياسات ممنهجة: تهجير، مصادرة أراضٍ، فرض حصار، وإنكار حق العودة.
هنا حدث التحول الجوهري: الدولة التي قامت على خطاب "ملاذ آمن لشعب مضطهد" أصبحت تمارس اضطهادًا طويل الأمد بحق شعب آخر، في تناقض صارخ مع المبرر الأخلاقي الذي بُنيت عليه شرعيتها أمام العالم.

الازدواجية في الوعي الجمعي الإسرائيلي

المفارقة الكبرى هي أن الوعي الجمعي الإسرائيلي ما زال يرى نفسه ضحية دائمة، حتى وهو يمارس أقصى درجات السيطرة والقوة العسكرية.

  • يضخم ذكرى المحرقة لتبرير أفعال الحاضر.
  • يتعامل مع الفلسطينيين كتهديد وجودي، لا كضحايا لسياساته.
  • يقدّم نفسه في الإعلام كطرف محاصر أو مهدد، بينما يمارس حصارًا خانقًا على غزة.

هذه الازدواجية تُضعف مصداقية الرواية الإسرائيلية في أعين الشعوب، وتزيد من فجوة الثقة الأخلاقية.

فقدان الرصيد الأخلاقي

كما في المثال البسيط: "من كان مسروقًا وصار سارقًا" — يفقد التعاطف الذي حظي به.
إسرائيل كانت تحظى بتعاطف واسع في الغرب والشرق، لكن هذا التعاطف يتآكل كلما ازدادت الجرائم والانتهاكات.
ومع مرور الوقت، إذا فُقد الغطاء السياسي من القوى العظمى، قد تجد نفسها في عزلة أخلاقية وسياسية عميقة، وربما تتمنى لو عادت إلى أيام كانت فيها "الضحية" بدلًا من "الجلاد" في نظر العالم.

الخلاصة

التاريخ لا يحمي من المساءلة.
الظلم الذي مورس على اليهود في الماضي لا يمنح إسرائيل تفويضًا مفتوحًا لممارسة الظلم اليوم. وكما تتغير مواقع القوة، تتغير أيضًا مواقع التعاطف، ولا يمكن لأي أمة أو دولة أن تحتفظ برصيدها الأخلاقي إذا انقلبت على مبادئ العدالة التي طالبت بها يومًا ما.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.