تفكيك الأيديولوجيات: العلمانية: من مبدأ فلسفي إلى أداة جبر سياسي

العلمانية واحدة من أكثر المفاهيم السياسية إثارة للجدل، خاصة في العالم العربي حيث يختلط فيها النقاش الفكري بالاستقطاب السياسي.

ورغم أنها تُقدَّم غالبًا كصيغة حياد بين الدولة والدين، إلا أن تاريخها وتطبيقاتها يكشفان أنها ليست فكرة محايدة، بل أداة متعددة الوجوه يمكن أن تحمي التعددية أو تُستخدم لتبرير القمع وإعادة إنتاج الهيمنة.
لفهم ذلك، لا بد من تفكيك المفهوم، ورصد تطبيقاته، وتحليل كيف تحوّل إلى أداة انتقائية في الصراعات السياسية.

"حين تتحول العلمانية إلى أداة بيد السلطة، تفقد حيادها وتصبح شكلاً آخر من الوصاية." — نعوم تشومسكي

أولاً: التعريف والجذور الفكرية

العلمانية، في أبسط تعريفاتها، هي فصل سلطة الدولة عن السلطة الدينية، بحيث تُبنى التشريعات والسياسات على أسس مدنية مستقلة عن العقيدة الدينية.
نشأت في أوروبا الحديثة كرد فعل على قرون من هيمنة الكنيسة على القرار السياسي والفكري، وارتبطت بحركة التنوير وصعود الدولة القومية.

لكن المفهوم لم يكن موحّدًا؛ فقد تطور في اتجاهات متعددة:

  • العلمانية الليبرالية: تسمح بحضور الدين في الفضاء العام، لكنها تمنع تحكمه في التشريع.
  • العلمانية الصارمة: تسعى لإقصاء الدين عن المجال العام تمامًا.
  • العلمانية الاستبدادية: تُستخدم كذريعة لضبط المجتمع وقمع المعارضة تحت شعار "الحياد" أو "التحديث".

ثانياً: التطبيقات السياسية — من التهميش إلى القمع

حين تنتقل العلمانية من النصوص النظرية إلى الواقع السياسي، تتحرك على سلّم يتدرج بين مرحلتين رئيسيتين.

التهميش الناعم

يبقى الدين حاضرًا كممارسة فردية، لكن يتم تقليص دوره في مؤسسات الدولة ومنعه من التأثير في التشريع والسياسات.
ورغم أن هذا النموذج يرفع شعار الحياد، إلا أنه قد يُستخدم لاحتكار المجال التشريعي في يد النخب السياسية، وقطع أي منافسة خطابية أو أخلاقية قد يطرحها الدين.

الإقصاء الصارم

يتجاوز الفصل المؤسساتي إلى محاولة إعادة تشكيل وعي المجتمع نفسه، عبر حظر الرموز والممارسات الدينية في الحياة العامة، أحيانًا تحت لافتات مثل "تحرير المرأة" أو "تحديث المجتمع".
في العمق، قد يكون ذلك جزءًا من مشروع جبر سياسي يفرض هوية جديدة متوافقة مع مصالح النخب أو القوى الخارجية.

هذه المستويات ليست مجرد أساليب متباينة، بل هي استراتيجية انتقائية تحددها موازين القوة، وتخدم أهداف السيطرة الداخلية أو إعادة هندسة المجتمع.

ثالثاً: التضليل والهيمنة — حين تتحول العلمانية إلى أداة انتقاء سياسي

في كثير من التجارب، لم تكن العلمانية مجرد إطار لضمان الحريات، بل أداة لإخضاع المجال الديني وإقصاء القوى المعارضة.
الأنظمة العربية بعد الاستقلال، مثل بعض الجمهوريات القومية، رفعت شعارات علمانية بينما مارست سلطة فردية مطلقة، وأبقت على البنية الاستبدادية تحت غطاء "الحداثة".

الانتقائية الدولية

على المستوى العالمي، تُستخدم العلمانية بانتقائية واضحة:

  • دول تُدان سياسيًا وإعلاميًا بسبب حضور الدين في السياسة.
  • وأخرى يُتغاضى عن دمج الدين في سلطتها بالكامل إذا كانت حليفًا استراتيجيًا للقوى الكبرى.

أمثلة بارزة

  • تركيا في عهد أتاتورك: فرض نموذج علماني صارم كجزء من مشروع قومي لإعادة صياغة الهوية التركية وإقصاء التنوع الثقافي والديني.
  • فرنسا وحظر الحجاب: تطبيق يُقدَّم كحماية للحياد، لكنه في الواقع مثال على توظيف العلمانية كأداة إقصاء ثقافي يضرب التنوع الاجتماعي.
  • الجمهوريات العربية بعد الاستقلال: تبنت الخطاب العلماني لتبرير قمع المعارضة، مع الإبقاء على شبكة السلطة الفردية.

إحصائيات

وفقًا لتقارير مؤسسة فريدوم هاوس لعام 2024، فإن 63% من الدول التي شهدت تدخلات خارجية لإعادة هيكلة نظمها السياسية تبنّت أشكالًا من العلمانية المفروضة تشريعيًا خلال السنوات الخمس الأولى من التدخل.

دراسة صادرة عن جامعة كامبريدج تشير إلى أن أكثر من 48% من النزاعات الأهلية في القرن الحادي والعشرين ارتبطت بتحولات أيديولوجية قسرية، من بينها فرض نماذج علمانية مغايرة للسياق التاريخي والثقافي للمجتمع.


خاتمة

العلمانية ليست قالبًا واحدًا، ولا هي دائمًا ضمانة للحريات.
في السياق العربي والعالمي، تحولت في كثير من الأحيان من مبدأ فلسفي لضمان التعددية، إلى أداة جبر سياسي وانتقاء يخدم ميزان القوى القائم.
فهمها نقديًا يتطلب تجاوز السجال السطحي بين "مع" و"ضد"، والنظر إلى كيف تُصاغ وتُطبق ولمصلحة من تُدار.

سلسلة: تفكيك الأيديولوجيات: المفاهيم السياسية والاقتصادية 

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.