القومية: بين الوحدة الوطنية وأداة التفكيك السياسي

القومية واحدة من أبرز المذاهب السياسية التي أعادت رسم خريطة العالم الحديث، خصوصًا مع صعود الدولة القومية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
هي فكرة تحمل في ظاهرها وعدًا بالوحدة والنهضة، لكنها في التطبيق كثيرًا ما تحولت إلى أداة إقصاء وتبرير للصراعات الداخلية والخارجية.
لفهم القومية، لا بد من العودة إلى جذورها، ورصد تطبيقاتها، وتحليل كيف تتحول أحيانًا من رابطة جامعة إلى أداة تقسيم وهيمنة.
"القومية يمكن أن تكون جسرًا يوحد الشعوب، أو سيفًا يقطع أوصالها." — أنطونيو غرامشي
أولاً: التعريف والجذور الفكرية
القومية هي مذهب سياسي يربط الهوية السياسية للأمة بعوامل مشتركة مثل اللغة، الثقافة، التاريخ، أو العِرق، ويسعى لقيام دولة ذات سيادة تمثل هذه الأمة.
نشأت القومية الحديثة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، متأثرة بصعود الدولة المركزية والثورات التي أطاحت بالإمبراطوريات متعددة القوميات.
لكن القومية ليست نوعًا واحدًا؛ فقد ظهرت في أشكال متعددة:
- القومية الثقافية: تقوم على وحدة اللغة والتراث.
- القومية السياسية: تركز على المواطنة والانتماء للدولة بغض النظر عن الخلفية العِرقية أو الدينية.
- القومية العرقية: تبني هويتها على الانتماء العِرقي الصِرف، وغالبًا ما تحمل نزعات إقصائية.
ثانياً: التطبيقات السياسية — من الوحدة إلى الانقسام
رغم أن القومية تُطرح كمشروع جامع، إلا أن تطبيقها في الواقع يختلف جذريًا باختلاف السياق السياسي.
القومية كأداة وحدة
في سياقات التحرر من الاستعمار، كانت القومية أداة لحشد الطاقات الوطنية ضد القوى الخارجية، كما في التجربة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، أو حركات الاستقلال في آسيا وأفريقيا.
القومية كأداة انقسام
في حالات أخرى، تقلصت القومية إلى حدود الدولة السياسية بدل أن تمثل الأمة بكاملها. وهكذا نشأت قوميات "مجزأة" بين عدة دول، كما هو الحال في العالم العربي حيث توجد قوميات فرعية (المصرية، الشامية، الخليجية...) رغم وحدة اللغة والثقافة الأوسع.
كما قد تتحول القومية إلى أداة صراع داخلي حين تتبنى فئة واحدة تعريف الأمة وتقصي بقية المكونات.
ثالثاً: التضليل والهيمنة — حين تتحول القومية إلى مشروع سلطة
القومية، رغم خطابها الجامع، يمكن أن تُستخدم لتثبيت حكم النخب أو لتبرير السياسات التوسعية.
في الداخل
الأنظمة القومية في العالم العربي مثلاً رفعت شعار الوحدة، لكنها في كثير من الأحيان استخدمته لقمع المعارضة، وتبرير الاستبداد باسم "المصلحة الوطنية".
في الخارج
على الساحة الدولية، وُظفت القومية لتبرير الغزو أو السيطرة على أراضٍ بدعوى "حق الأمة" أو "استعادة الأرض التاريخية".
كما يتم دعم أو إضعاف القوميات المختلفة من قبل القوى الكبرى بما يخدم مصالحها، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم شعوب ذات هوية مشتركة.
أمثلة بارزة
- القومية العربية بعد الاستقلال: وعدت بوحدة العرب لكنها انكمشت إلى كيانات سياسية متنافسة.
- القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر: حررت شعوبًا من الإمبراطوريات، لكنها فجرت صراعات دموية بين الدول.
- القومية الهندوسية المعاصرة: مثال على القومية التي تتحول إلى أداة إقصاء ديني داخل الدولة.
الإحصائيات:
وفقًا لتقرير مجلس العلاقات الخارجية (CFR) لعام 2023، أكثر من 70% من النزاعات الداخلية في العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة ارتبطت بدوافع قومية أو إثنية.
البنك الدولي يشير إلى أن 45% من الحروب الأهلية منذ 1990 اندلعت نتيجة مطالب قومية بالانفصال أو الحكم الذاتي.
خاتمة
القومية تحمل تناقضًا جوهريًا: فهي في أفضل حالاتها أداة تحرر ووحدة، وفي أسوأ حالاتها مشروع إقصاء وهيمنة.
وفي عالم اليوم، حيث تتشابك الهويات وتتداخل الحدود، يبقى السؤال: هل يمكن للقومية أن تبقى رابطة جامعة دون أن تنزلق إلى مشروع تقسيم وصراع؟