تشكّل قناة السويس عقدة مركزية في بنية النظام العالمي، لا لأنها مجرد ممر مائي تجاري، بل لأنها نقطة التقاء مصالح متشابكة ومتضاربة للقوى الكبرى، حيث تُختبر مشروعية السيادة الوطنية في مواجهة الهيمنة الاستعمارية الجديدة والأجندات الجيوسياسية المتغيرة. تحت قشرة التحكم المصري الرسمي، تظل القناة فضاءً يشتعل بصراعات النفوذ التي تتخطى حدود الدولة، ليغدو ميدانًا يتداخل فيه النفوذ العسكري، الاقتصادي، والاستخباراتي.
القناة كأداة استراتيجية في صناعة الجبر السياسي
منذ تأميمها في 1956، عرفت قناة السويس كيف تصبح ساحة اختبار لإعادة رسم قواعد القوة العالمية. هذا الفعل المصري لم يكن مجرد خطوة اقتصادية أو سيادية، بل تحدٍ مباشر لمشروع الهيمنة الغربية الذي يعتمد على إضعاف السيادة الوطنية وتحويل نقاط القوة الجغرافية إلى أدوات طيعة تحت سيطرة القوى الاستعمارية الحديثة. لم تكن أزمة السويس مجرد مواجهة عسكرية، بل لحظة انكشاف الصراعات الخفية بين القطب الاستعماري القديم (بريطانيا وفرنسا) والناشئ الجديد (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، حيث تداخلت المصالح والضغوط لتحديد مصير القناة.
الهيمنة المختلطة: السيادة الفعلية تحت الوصاية العالمية
رغم سيطرة مصر الشكلية على القناة عبر هيئة قناة السويس، فإن واقع التحكم الحقيقي هو نتاج توازنات سياسية معقدة تفرضها القوى الكبرى. فالولايات المتحدة الأمريكية والكتلة الغربية يتدخلون بصورة غير مباشرة من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي، بما يضمن عدم خروج القناة عن دائرة النفوذ الدولي. من جهة أخرى، تظهر الصين وروسيا كمتنافسين جدد يحاولون إحداث اختراقات اقتصادية واستراتيجية عبر الاستثمار والتعاون الأمني، ما يجعل من القناة ساحة تنافس بين نظام دولي متعدد الأقطاب وجبر سياسي دائم.
القناة والحرب الهجينة: التحكم في التدفقات كأداة ضغط
تتجاوز المعارك التقليدية حول القناة، حيث باتت تقنيات الحرب السيبرانية، الإعلامية، والاستخباراتية تلعب دورًا محوريًا في السيطرة على تدفق المعلومات والملاحة. هذه الحرب غير المرئية تستخدم القناة كرافعة لفرض أجندات سياسية من خلال التحكم في حركة السفن، التحكم في الرسوم، وحتى تهديد الأمن البحري، ما يحول القناة إلى ساحة حرب اقتصادية واستراتيجية ضمن النزاعات الجيوسياسية الأوسع.
إعادة التوازن عبر التوسع والتحالفات الإقليمية
مشروع توسيع القناة عام 2015 كان أكثر من مجرد توسعة لمدخل تجاري؛ إنه محاولة مصرية لإعادة التمركز في منظومة النفوذ الإقليمية والدولية. هذه الخطوة تأتي في سياق صراعات محلية وإقليمية متشابكة، تشمل تنافسات داخل الخليج، الصراع في شرق أفريقيا، وامتداد تأثير القوى الكبرى. تتحرك مصر في هذه المنظومة بمنطق صراع دائم بين تثبيت سيادتها وبين إقحامها في حلبة التنافس الدولي المفتوح، حيث تتحول القناة إلى ورقة مساومة حيوية في المعادلات السياسية.