تفكيك الأيديولوجيات: الصهيونية: من خطاب المظلومية إلى مشروع السيطرة

الصهيونية: مشروع قومي أم استعمار بوجه جديد؟

الصهيونية ليست مجرد حركة قومية يهودية كما تُقدَّم في الكتب المدرسية أو الخطابات الرسمية، بل هي منظومة فكرية وسياسية متشابكة، ونتاج لمرحلة تاريخية شهدت صعود القوميات الأوروبية، وتوسع الاستعمار، وإعادة رسم الخرائط الجغرافية والسياسية للعالم.
منذ انطلاقتها أواخر القرن التاسع عشر، حملت الصهيونية هدفًا واضحًا: إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن الطريق إلى ذلك الهدف كان مليئًا بالتحالفات الاستعمارية، والصفقات السياسية، والحروب، وحملات التهجير القسري.

"الصهيونية ليست حركة قومية لليهود، بل حركة استعمارية لاحتلال أرض الآخرين." — إدوارد سعيد

النشأة والسياق التاريخي

ظهرت الصهيونية في أوروبا الشرقية والغربية، مستندة إلى شعور جماعي بالاضطهاد الذي واجهه اليهود في تلك الفترة، وإلى موجة الفكر القومي التي اجتاحت القارة الأوروبية.
وجدت هذه الحركة في الاستعمار الأوروبي فرصة ذهبية؛ فقد تزامن صعودها مع توسع القوى الغربية في أفريقيا وآسيا، ومع ميل بريطانيا وفرنسا وغيرهما لتوظيف الجماعات المنظمة لخدمة مشاريعها الجيوسياسية.
منذ مؤتمر بازل 1897 بقيادة تيودور هرتزل، صيغت الفكرة في قالب سياسي منظم، وأصبح "الاستيطان في فلسطين" هو الهدف المركزي، مع العمل على كسب دعم القوى العظمى.

من الفكرة إلى المشروع السياسي

تحوّل المشروع الصهيوني من مجرد حلم قومي إلى خطة عملية عبر ثلاث مراحل أساسية:

  1. الشرعية السياسية: وعد بلفور (1917) الذي منح اعترافًا رسميًا بريطانيًا بالمشروع الصهيوني.
  2. الهجرات المنظمة: موجات متتابعة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، مدعومة بموارد مالية وتنظيمية كبيرة.
  3. إقامة الكيان: إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، الذي تزامن مع تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني فيما عُرف بالنكبة.

الصهيونية كأداة هيمنة

لم تكن الصهيونية مشروعًا معزولًا، بل جزءًا من منظومة الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط. فقد خدم الكيان الإسرائيلي كمركز متقدم للمصالح الاستراتيجية والعسكرية، وكمخفر أمامي في مواجهة القوى الإقليمية الممانعة.
وفي الوقت نفسه، تحولت الصهيونية إلى ذريعة لتفكيك أي مشروع وحدوي عربي، وإلى أداة لإشعال الصراعات الإقليمية وإبقاء المنطقة في حالة استنزاف دائم.

التطبيق العملي للمشروع

تجسد المشروع الصهيوني في شكل استيطان منظم بدأ قبل تأسيس إسرائيل بسنوات طويلة، عبر شراء الأراضي بأساليب ضغط أو انتزاع بالقوة، وتهجير السكان الأصليين، وتأسيس ميليشيات مسلحة مثل "الهاغاناه" و"شتيرن". بعد عام 1948، تحول المشروع إلى دولة ذات مؤسسات سياسية وعسكرية قوية، تعمل على ترسيخ الهيمنة من خلال:

  • تهويد الأرض عبر الاستيطان المستمر.
  • محو الهوية الفلسطينية عبر السيطرة على التعليم والموارد.
  • تعزيز الدعم الغربي والأمريكي لضمان التفوق العسكري والسياسي.

التضليل والهيمنة وصناعة الوعي الزائف

اعتمدت الصهيونية على منظومة دعائية عالمية تصوّرها كحركة تحرر قومي لليهود، بينما هي في جوهرها مشروع إحلالي استعماري. ولتحقيق ذلك، لجأت إلى أساليب تضليل متقنة:

  • التاريخ الانتقائي: إبراز روايات مختارة عن "حق تاريخي" لليهود في فلسطين، مع تجاهل قرون من التعايش الفلسطيني-اليهودي.
  • تسييس الدين: تحويل النصوص الدينية إلى أداة تبرير للسيطرة والتهجير.
  • شيطنة الخصوم: تصوير الفلسطينيين والعرب كخطر وجودي يبرر العنف الاستباقي.
  • توظيف الهولوكوست: استحضار مأساة اليهود في أوروبا كوسيلة لابتزاز الدعم السياسي والأخلاقي عالميًا.
  • صورة الديمقراطية: الترويج لإسرائيل كـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، مع التعتيم على ممارسات الفصل العنصري.

أمثلة سياسية بارزة

  • تهجير 1948 (النكبة): تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين بالقوة وتدمير مئات القرى.
  • حرب 1967: احتلال أراضٍ جديدة وتوسيع المشروع الاستيطاني.
  • اتفاقيات أوسلو: استخدام عملية السلام كغطاء لتكثيف الاستيطان.

الإحصائيات:

تشير بيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي إلى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية تضاعف من 235 ألفًا عام 2000 إلى أكثر من 500 ألف عام 2023.

وفقًا للأمم المتحدة، تم تدمير أو مصادرة أكثر من 50 ألف منزل فلسطيني منذ عام 1967 ضمن سياسات التهجير والاستيطان.

خاتمة

الصهيونية ليست فقط حركة قومية لليهود، ولا مجرد كيان سياسي، بل نموذج متكامل لاستخدام الفكر القومي كغطاء لمشروع استيطاني إحلالي، مدعوم من قوى استعمارية كبرى.
إن تفكيك خطابها، وفهم أدواتها السياسية والإعلامية، شرط لفهم طبيعة الصراع في المنطقة، ولفهم كيف تتحرك القوى الكبرى عبر مشاريع "قومية" ذات طابع استيطاني، تتجاوز حدودها المعلنة إلى أهداف أبعد بكثير.

سلسلة: تفكيك الأيديولوجيات: المفاهيم السياسية والاقتصادية 

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.