
الفوضى كأداة إستراتيجية
الفوضى ليست عرضًا جانبيًا للصراعات، بل تُستخدم كأداة هندسية لإعادة تشكيل التوازنات. حين تسقط مؤسسات الدولة أو تُضعف عمدًا، يصبح التدخل الخارجي "ضرورة" لا خيارًا. وهكذا تتحول القوى الكبرى من غازٍ مكشوف إلى منقذ شرعي. هذه الفوضى المُدارة تتيح:
- فتح الأسواق أمام الشركات الأجنبية تحت غطاء "إعادة الإعمار".
- تقسيم المجتمع طائفيًا أو عرقيًا بحيث يستحيل تشكل إرادة وطنية موحدة.
- إبقاء النخب المحلية رهينة الدعم المالي والسياسي القادم من الخارج.
التجارب الحية: من العراق إلى ليبيا
- العراق: بعد 2003، لم تُبنَ دولة مستقرة، بل فُككت المؤسسات وأُطلقت التناقضات الطائفية، لتبقى واشنطن مرجعًا في الأمن والسياسة والاقتصاد.
- ليبيا: تدخل الناتو لم يسقط النظام فقط، بل أسس لتفكك طويل المدى، حيث صارت الدولة موزعة بين ميليشيات، ما يجعل أي استقرار مشروطًا برعاية خارجية.
- سوريا واليمن: الحروب المستمرة تحولت إلى ساحة استنزاف، لا يُسمح لأي طرف أن يحسمها، بحيث تبقى الأزمة مفتوحة ومربوطة بقرارات القوى الكبرى.
إدارة الفوضى لا تعني غياب النظام
اللافت أن الفوضى ليست فوضى مطلقة، بل فوضى مُنظمة. هناك خطوط حمراء لا تُتجاوز: لا انهيار كامل يخرج الأمور عن السيطرة، ولا استقرار يمنح الدولة استقلالًا. إنها حالة وسطية تُدار بدقة، أشبه بمختبر سياسي تتحكم فيه القوى الكبرى بمستويات الصراع حسب مصالحها.
الأثر العميق: تدمير فكرة الدولة
الخطر الأكبر ليس فقط في الدماء والخراب المادي، بل في إضعاف الوعي الجمعي بمفهوم الدولة. حين يعيش المجتمع عقودًا في فوضى، يصبح مستعدًا لقبول أي وصاية خارجية كخلاص. وهذا هو الهدف: خلق شعوب ترى في التدخل الأجنبي ضرورة لا تُقاوَم.
الخلاصة
"إدارة الفوضى" هي السلاح الجديد للاستعمار المعاصر: إبقاء الدول ضعيفة، منقسمة، غير قادرة على الاعتماد على ذاتها. وهكذا تضمن القوى الكبرى استمرار الهيمنة بأقل تكلفة، وتحوّل الشعوب إلى رهائن تنتظر "المنقذ الخارجي".