بعد فشل الاحتلال في كسر إرادة الفلسطينيين عسكريًا، اتجهت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون إلى الحرب الناعمة، وهي مجموعة من الأساليب غير العسكرية تستهدف تفكيك المقاومة من الداخل. الإعلام، الاقتصاد، والثقافة أصبحوا ميادين معركة جديدة، تهدف إلى التأثير على الوعي الجمعي الفلسطيني، وتحويل المقاومة من فعل وجودي إلى مجرد رد فعل محدود. هذه الحرب أكثر خطورة في بعض الحالات لأنها تستهدف العقيدة نفسها، وليس الجسد أو الأرض فقط.
١- الإعلام: محاولة إعادة تعريف الفلسطيني
الإعلام الدولي والإسرائيلي حاول تصوير الفلسطينيين كضحايا عاجزين أو كإرهابيين، بهدف تقليل شرعية المقاومة:
- تصوير المقاومة كخطر عالمي: تحويل كل عملية فدائية إلى "إرهاب" في العيون الدولية.
- تضخيم الخسائر الفلسطينية: التركيز على عدد القتلى والدمار لتقديم المقاومة كعمل عبثي بلا جدوى.
- محاولة تغيير الرواية: تسويق "السلام الاقتصادي" كبديل، متجاهلين جذور الصراع ومعناه التاريخي.
النتيجة: محاولة تغيير العقيدة من داخلها عبر ضرب المعنى، وإقناع المجتمع بأن المقاومة بلا جدوى.
٢- الاقتصاد: الإغراء مقابل الحصار
الاقتصاد هو أداة كسر العقيدة عبر:
- الحصار والإفقار: منع البضائع الأساسية، تقييد الحركة، وتعطيل المشاريع الاقتصادية لتوليد شعور بالعجز واليأس.
- الإغراء الاقتصادي: تقديم وظائف، مساعدات، واستثمارات مشروطة بالامتثال والرضوخ، كوسيلة لإعادة صياغة الولاء.
- تحويل الاقتصاد إلى سلاح: تعطيل الإنتاج المحلي وخلق اعتماد دائم على الدعم الخارجي، ما يجعل كل مقاومة “تكلفة شخصية” عالية جدًا.
مثال حي: حصار غزة الطويل الذي زاد من الضغط على السكان، لكنه لم ينجح في تفكيك العقيدة القتالية، بل زادها صلابة.
٣- الثقافة والتعليم: محاولات إعادة تشكيل الوعي
الثقافة والتعليم أصبحا أدوات رئيسية لتوجيه الأجيال الجديدة:
- محو الرموز الوطنية: تشويه التاريخ، وتغيير المعاني الرمزية للبطولات والمقاومة.
- التحفيز على الفردانية: نشر ثقافة استهلاكية ومادية بدلاً من الروح الجماعية.
- تغيير الهوية: إغراق الجيل الجديد بمناهج تعليمية وسياسية غربية تفصلهم عن قضيتهم الوطنية.
الهدف: خلق جيش من الشباب الفلسطيني "المستهلك"، منفصل عن المقاومة والمجتمع، ما يقلل من المناعة الجماعية للعقيدة.
٤- المقاومة كاستجابة مزدوجة
رغم هذه الحرب الناعمة، لم تنجح إسرائيل وحلفاؤها في تفكيك العقيدة:
- المقاومة الفلسطينية لم تعد مجرد مواجهات عسكرية، بل تشمل مقاومة معرفية وثقافية واقتصادية.
- الإعلام البديل، التعليم المجتمعي، والمبادرات الاقتصادية الصغيرة لعبت دورًا في صيانة الهوية الجماعية.
- كل محاولة لتفكيك العقيدة تؤدي إلى إنتاج جيل جديد من المقاومين، يعرف كيف يتجاوز الضغوط الاقتصادية والثقافية والإعلامية.
٥- الدروس المستفادة
- الحرب الناعمة أخطر من الحرب التقليدية: لأنها تستهدف الوعي والعقيدة وليس الجسد فقط.
- المقاومة متعددة الأبعاد: القوة لا تقاس بالسلاح فقط، بل بالوعي الجماعي والتضامن الثقافي والاقتصادي.
- المناعة المجتمعية ضرورية: أي تهديد غير عسكري يمكن مواجهته عبر التعليم، الثقافة، والعمل الاقتصادي المقاوم.
الخاتمة
الحرب الناعمة تمثل تحديًا استراتيجيًا غير تقليدي للاحتلال، لكنها حتى الآن لم تنجح في تفكيك العقيدة الفلسطينية. الفلسطينيون أثبتوا أن المقاومة ليست مجرد عمل عسكري، بل ثقافة ووعي جماعي متجذر، يصعب على أي قوة خارجية كسره. في مواجهة الإعلام والدعاية والحصار والإغراء الاقتصادي، يبقى الفداء الفلسطيني والتمسك بالهوية الوطنية حجر الأساس للمناعة الوطنية، وضمانًا لاستمرار المقاومة رغم كل الضغوط.