
رأس المال كأداة للهيمنة
الاستحواذات الكبرى لا تتحرك في فراغ، وإنما تنطلق من حاجة القوى الاقتصادية الغربية إلى إعادة إنتاج السيطرة عبر المال بدل المدافع. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تحولت الشركات متعددة الجنسيات إلى الذراع الاقتصادية التي تنفذ أجندات الدول الكبرى من دون ضجيج سياسي. حين تشتري شركة أمريكية تكنولوجيا أوروبية أو صينية، أو تستحوذ مجموعة مالية غربية على شركات في العالم الثالث، فإنها لا تكتفي بامتلاك السوق، بل تحتكر أيضًا المعرفة، شبكات التوزيع، والقدرة على التحكم في مسارات التطوير.
هنا يصبح رأس المال نفسه قوة سيادية بديلة. فحيث كانت السيطرة سابقًا تتم عبر الاحتلال المباشر أو التدخل العسكري، أصبحت اليوم تتحقق عبر تملك الأصول الاستراتيجية للشعوب. الميناء أو الشركة الوطنية أو حتى التطبيقات الرقمية ليست مجرد مشاريع تجارية، بل عناصر سيادة يتم نزعها من الدولة لصالح المساهمين الكبار.
الجبر السياسي عبر الاقتصاد
المصطلح الأبرز هنا هو الجبر السياسي، أي إكراه الدول والشعوب على خيارات لا تصبّ في مصلحتها، تحت ضغط آليات غير عسكرية. الاندماجات الضخمة تمثل إحدى هذه الآليات. فحين تندمج شركتان عملاقتان في مجال التكنولوجيا أو الطاقة، فإن حجم السوق الذي تحتكرانه يفرض على الحكومات الصغيرة التكيّف القسري. أي أن خيارات السياسات الاقتصادية والضريبية والبيئية لهذه الحكومات تصبح محدودة، لأن مصالح الشركات الكبرى أقوى من قدرتها على المقاومة.
الجبر السياسي يظهر أيضًا في صيغ "الاتفاقيات الاستثمارية" التي تُفرض على الدول النامية كشرط لجذب رأس المال. هذه الاتفاقيات غالبًا ما تمنح المستثمرين حصانة قانونية، وتحرم الحكومات من الحق في فرض قيود بيئية أو اجتماعية. وبذلك يتحول الاستحواذ إلى قيد سياسي، حيث يصبح التشريع الوطني تابعًا لمقتضيات المستثمر الدولي.
إعادة هندسة سلاسل القيمة
أحد أخطر أبعاد الاستحواذات هو إعادة هندسة سلاسل القيمة العالمية. حين تستحوذ شركات أمريكية أو أوروبية على شركات ناشئة في آسيا أو إفريقيا، فإنها لا تبحث فقط عن الأرباح، بل عن إعادة دمج تلك القدرات المحلية ضمن سلاسل إنتاج تخدم المركز الرأسمالي. وهكذا تُجرّد الاقتصادات الطرفية من فرص بناء استقلال تكنولوجي أو صناعي.
على سبيل المثال، الاستحواذات المتزايدة في قطاع أشباه الموصلات ليست مجرد منافسة اقتصادية، بل معركة جيوسياسية للسيطرة على قلب التكنولوجيا الحديثة. امتلاك شركة ما لحصة كبرى في هذا القطاع يعني التحكم في صناعة الأسلحة، الاتصالات، والذكاء الاصطناعي. أي أن الاندماج المالي يتحول إلى سلاح استراتيجي يحدد من يملك زمام القوة في المستقبل.
تلاشي الدولة أمام الشركات
مع تصاعد هذه الموجة، يبرز سؤال خطير: هل ما زالت الدول تملك سلطة حقيقية أمام الشركات العملاقة؟
المشهد العالمي يشير إلى تلاشي تدريجي لسلطة الدولة. الحكومات تجد نفسها مضطرة للتنافس على إرضاء رأس المال، عبر خفض الضرائب، تقليص الرقابة، وفتح الأسواق بلا قيود. وفي المقابل، تتحول الشركات إلى كيانات ذات نفوذ سياسي مستقل، قادرة على التأثير في الانتخابات، الإعلام، وحتى في رسم السياسات الخارجية.
هذا التلاشي ليس عرضيًا، بل هو جزء من بنية الجبر السياسي: إخضاع الدولة الوطنية لمنطق السوق، بحيث تفقد سيادتها لصالح سيادة مالية عابرة للحدود. والنتيجة أن المواطن العادي يصبح محاصرًا بين دولتين غير منتخبتين: دولة المستثمر ودولة المصرف، وكلاهما لا يعترف بمفهوم الإرادة الشعبية.
التفاوت العالمي: تريليونات للأقوياء وصفر للضعفاء
بينما تُدار تريليونات الدولارات في أسواق الاندماجات والاستحواذات، تعاني دول الجنوب من أزمات تمويل حادة لمشاريع البنية التحتية أو الصحة أو التعليم. المفارقة الصارخة أن الأموال موجودة، لكنها موجهة إلى إعادة تدوير السلطة بين الشركات الكبرى، لا إلى تلبية حاجات البشر.
هذا التفاوت يفضح الوجه الآخر للجبر السياسي: الحرمان الممنهج. فالأسواق المالية تُسخّر لمراكمة النفوذ عند قلة محدودة، بينما يُحرم معظم سكان الأرض من أبسط حقوق التنمية. إنه شكل جديد من الاستعمار، حيث لا تُرفع أعلام الاحتلال، بل تُرفع أعلام الشركات متعددة الجنسيات، وتُفرض إرادة المساهمين بدل إرادة الشعوب.
الاستحواذات كخرائط قوة
علينا أن نقرأ هذه الموجة من الصفقات باعتبارها خرائط قوة جديدة. فالاندماج ليس عملية حسابية في بورصة، بل حدث سياسي يعيد توزيع موازين النفوذ. حين يندمج عملاقان في قطاع التكنولوجيا أو الإعلام، فإنهما يعيدان صياغة وعي الملايين عبر التحكم في المعلومات والخيال الجماعي. وحين تبتلع شركات الطاقة شركات أصغر، فإنها تعيد تشكيل السياسات البيئية للدول، بغض النظر عن إرادة حكوماتها.
بهذا المعنى، كل صفقة كبرى هي تعديل في الجغرافيا السياسية، حتى لو لم يعلن الإعلام ذلك. إنها خطوط ترسيم غير مرئية، حيث تتحول الشركات إلى "دول فوق الدولة"، وتصنع حدودًا جديدة في الخريطة العالمية: حدود النفوذ المالي.
خلاصة
الاستحواذات العملاقة ليست مجرد أخبار اقتصادية؛ إنها وثائق جبر سياسي مكتوبة بلغة المال. هي الأداة التي تستخدمها القوى الكبرى لتكريس هيمنتها، وإعادة تشكيل الخريطة العالمية دون إطلاق رصاصة واحدة. وفي كل مرة نقرأ فيها خبرًا عن صفقة بمليارات الدولارات، ينبغي أن نسأل: من سيفقد سيادته؟ أي دولة ستُجبر على تعديل قوانينها؟ وأي شعب سيدفع ثمن انتقال رأس المال من يد إلى أخرى؟
إن مقاومة هذا الجبر لا تكون بمجرد نقد اقتصادي، بل بوعي سياسي يفضح العلاقة بين السوق والوصاية، ويعيد الاعتبار لحق الشعوب في التحكم بمصائرها بعيدًا عن إكراه رأس المال العابر للحدود. فالاستحواذ الحقيقي ليس على الشركات فحسب، بل على السيادة ذاتها.