فلسطين كأيقونة أخلاقية: لماذا تعاطف العالم أكثر من أي وقت مضى؟

في خضمّ أحداث دامية تتوالى منذ عقود، برزت القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة باعتبارها بؤرةً غير مسبوقة للتعاطف الشعبي العالمي، حتى بالمقارنة مع حروب كبرى شهدها العصر الحديث مثل غزو العراق واحتلال أفغانستان. هذه الظاهرة لا تفسَّر بمجرّد الحدث العسكري أو المأساة الإنسانية، بل تكشف عن تحوّل جذري في بنية الوعي العالمي وفي قدرة الشعوب على التحرّر من السرديات التي طالما روّجتها القوى الكبرى عبر الإعلام التقليدي. فلسطين اليوم لم تعد قضية "محلية"، بل تحوّلت إلى اختبار عالمي للعدالة، ورمزٍ كاشف لسقوط ادعاءات الغرب حول القيم الإنسانية.

وضوح المظلومية وكسر الالتباس

في معظم الصراعات الحديثة، حرصت القوى الغازية على تغليف تدخلاتها بشعارات "التحرير" و"محاربة الإرهاب" و"نشر الديمقراطية". هذا ما حدث في أفغانستان حين بُني الغزو الأمريكي على خطاب يدمج "الثأر من الإرهاب" بـ"تحرير المرأة" و"إسقاط نظام متشدّد". مثل هذه السرديات زرعت الالتباس في وعي الجمهور، فأضعفت التعاطف المباشر مع المدنيين.

لكن في فلسطين، المعادلة شديدة البساطة: قوة عسكرية نووية مدعومة غربيًا تواجه شعبًا محاصرًا منزوع السلاح الاستراتيجي، محرومًا من أبسط مقومات الحياة. هذا التباين الفجّ جعل المظلومية الفلسطينية واضحةً إلى حدّ لا يقبل التأويل، فاختفى الالتباس وانكشفت الحقائق أمام جمهور عالمي بات أقدر على رؤية الأشياء دون وسائط مزيّفة.

تفكك الاحتكار الإعلامي

عند غزو أفغانستان أو العراق، كان الإعلام التقليدي هو المصدر شبه الوحيد للمعلومات. وكالات كبرى مثل CNN وBBC وFox News سيطرت على السردية، فحوّلت المشاهدين إلى متلقّين سلبيين ضمن إطار "الحرب على الإرهاب". لم يكن للمدني الأفغاني أو العراقي حضور مباشر في المشهد المرئي.

اليوم تغيّر المشهد جذريًا: مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى شاشات عالمية ينقل عبرها المواطنون في غزة تفاصيل حياتهم تحت القصف لحظة بلحظة. الصورة الخام، بلا مونتاج ولا تبرير، أصبحت هي المرجع الأول. هذا التحوّل أفقد الإعلام الغربي احتكاره للرواية، وأعاد تعريف العلاقة بين "الحدث" و"المتلقي".

سقوط الرواية الغربية الرسمية

الوعي العالمي لم يتغيّر فجأة، بل بُني على تراكمات. غزو العراق عام 2003 قدّم أكبر فضيحة للرواية الأمريكية حين تبيّن أن "أسلحة الدمار الشامل" مجرّد كذبة سياسية. الحرب على أفغانستان انتهت بعد عقدين بهزيمة مذلّة، كشفت زيف وعود "بناء الدولة" و"التحرير". هذه السوابق قوّضت الثقة في الخطاب الغربي، وفتحت المجال لشكّ شعبي واسع في أي تبريرات رسمية جديدة.

وعندما تتكرر في فلسطين الحجج ذاتها — "الدفاع عن النفس"، "محاربة الإرهاب"، "ضمان الأمن" — فإنها تسقط أمام ذاكرة جماعية تعلمت من التجارب السابقة أن هذه الشعارات مجرد أقنعة.

فلسطين كرمز للتحرّر العالمي

ثمة بعد رمزي يجعل فلسطين مختلفة: إنها ليست مجرد أرض محتلة، بل قضية ارتبطت بالذاكرة العالمية كآخر استعمار استيطاني واضح المعالم. تمامًا كما تحوّل نضال جنوب أفريقيا ضد الأبارتهايد إلى رمز في الثمانينات، تتحول فلسطين اليوم إلى أيقونة أخلاقية للقرن الواحد والعشرين.

فهي تعكس المواجهة العارية بين الحق والقوة، بين إنسان أعزل يطالب بحريته ودولة مدججة بالترسانة الغربية. هذه الرمزية تجعل فلسطين ليست قضية "شعب" فقط، بل مرآةً لكل قضايا التحرّر في العالم، من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا وآسيا.

أثر المجازر المتلفزة

ما فجّر الموجة الأخيرة من التعاطف العالمي هو حضور الجريمة بالصورة المباشرة: أطفال يُنتشلون من تحت الركام، مستشفيات تُقصف أمام الكاميرات، مدنيون يصرخون على الهواء. هذه المشاهد لم تعد تصل عبر تقارير غربية مصفّاة، بل مباشرة عبر هواتف الناس في غزة.

المجازر المتلفزة ألغت المسافة بين "المتلقي" و"الضحية". المشاهد الغربي، الذي كان يستهلك الأخبار كمعطيات بعيدة، بات يرى الضحية بعينها ويشعر بعجزه الأخلاقي إن لم يتفاعل. هكذا تحوّل التعاطف من عاطفة إنسانية إلى فعل سياسي في الشارع الغربي، عبر المظاهرات وحملات المقاطعة والضغط الشعبي.

صعود جيل عالمي ناقد

الأجيال الجديدة التي نشأت في ظلّ الإنترنت تختلف جذريًا عن سابقتها. جيل ما بعد 2000 أكثر نقدًا للهيمنة الغربية، وأكثر حساسية للعدالة الاجتماعية والتمييز. هو جيل تشرّب ثقافة "Black Lives Matter" و"Me Too"، ويرى في فلسطين امتدادًا لهذه المعركة ضد القهر والتمييز.

هذا الجيل يملك أدوات التواصل، ويمتلك القدرة على خلق موجات تضامن رقمية تتجاوز الجغرافيا، فيكسر بذلك垄 السرديات الرسمية ويصنع وعيًا كونيًا جديدًا.

ازدواجية المعايير كاشفة للزيف

من أهم أسباب التعاطف المتنامي أن فلسطين تكشف بوضوح ازدواجية الغرب: الدول نفسها التي تتشدق بحقوق الإنسان في أوكرانيا، تصمت أو تبرر الجرائم في غزة. هذا التناقض الفجّ صار مادةً للغضب الشعبي، ودفع الكثير من المواطنين الغربيين إلى التحرّك ضد حكوماتهم.
بمعنى آخر، فلسطين لم تعد تُرى فقط باعتبارها "قضية العرب"، بل باعتبارها مرآةً تعكس انهيار القيم الكونية التي طالما استُعملت كأداة هيمنة.

الخلاصة: من المحلية إلى الكونية

التعاطف غير المسبوق مع فلسطين اليوم ليس مجرد عاطفة عابرة، بل تحوّل استراتيجي في وعي الشعوب. وضوح المظلومية، وانهيار السرديات المهيمنة، وصعود الإعلام البديل، وتراكم الفشل الغربي، كل ذلك صاغ فلسطين كـ أيقونة أخلاقية كونية.

هذا التحوّل يفتح الباب أمام إعادة تعريف معايير العدالة الدولية، ويضع الغرب أمام امتحان أخلاقي عسير: إما أن يواجه حقيقة ازدواجيته، أو يترك الشعوب تكتب تاريخًا جديدًا يتجاوز وصايته.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.