
خلفية التحوّل: سقوط وهم الاندماج في النظام الغربي
منذ التسعينيات، حاولت موسكو وبكين أن تندمجا – بدرجات متفاوتة – في النظام الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. الصين دخلت عبر بوابة الاقتصاد والتجارة، وروسيا عبر الأمل في شراكة أمنية مع أوروبا. لكن كليهما اكتشف أن الغرب لا يقبل الندّية، ولا يسمح لأي قوة بالصعود خارج مظلته. فالحصار المفروض على روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، وحروب واشنطن التجارية ضد الصين، كانا رسائل واضحة بأن النظام الدولي الذي تروّج له أمريكا ليس نظامًا عالميًا مفتوحًا، بل نظام وصاية يضمن استمرار مركزية الغرب وهيمنته.
عند هذه النقطة، بدأ التحوّل الهادئ في إدراك موسكو وبكين: الغرب ليس شريكًا في التنمية، بل خصمًا استراتيجيًا في الوجود.
تحالف الضرورة يتحول إلى شراكة رؤية
ما يجمع الصين وروسيا اليوم يتجاوز منطق “عدوّ عدوي صديقي”. فالعلاقة بينهما لم تعد مجرد تبادل مصالح أو التقاء ظرفي أمام العقوبات الغربية، بل تبلورت كإطار مشترك لرؤية بديلة للنظام العالمي.
موسكو، التي تمتلك الخبرة العسكرية والعمق الجيوسياسي في أوراسيا، وجدت في الصين عمقًا اقتصاديًا وصناعيًا يؤمن لها متنفسًا من العزلة الغربية. وبكين، التي تواجه سياسة احتواء أمريكية شرسة في بحرها الجنوبي وتايوان، وجدت في موسكو سندًا استراتيجيًا يوازن الضغط الغربي.
التقاطع بين الطرفين لم يعد محصورًا في الطاقة أو التجارة، بل اتسع ليشمل بناء مؤسسات موازية للنظام الغربي مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، والمبادرات المالية البديلة عن الدولار. هذه ليست أدوات ظرفية، بل مكونات مشروع عالمي يسعى لإعادة تعريف السلطة والتأثير.
الغرب بين الإنكار وإعادة التموضع
يعيش الغرب اليوم حالة إنكار مزدوجة. فمن جهة، يصرّ على النظر إلى الصين وروسيا كـ"تهديدين منفصلين" يمكن احتواؤهما بسياسات مختلفة، متجاهلًا أن الضغوط الغربية هي ما جعلت التقارب بينهما ممكنًا بهذا العمق. ومن جهة أخرى، لا يملك القدرة على مواجهة تحالف يوازن بين القوة الاقتصادية والتكنولوجية الصينية والقدرة العسكرية والموارد الروسية.
تُدرك واشنطن أن العقوبات لم تعد تجدي، وأن قدرتها على عزل روسيا تتآكل بفضل الجسور التي تبنيها بكين عبر آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما تعلم أن محاولاتها لإضعاف الصين عبر خنق سلاسل الإمداد أو السيطرة على التكنولوجيا تواجه مقاومة عالمية متنامية ترى في بكين بديلًا للنظام الغربي المتآكل.
التحول الجيوسياسي: من الهيمنة إلى التوازن
العالم لم يعد أحادي القطب، لكنه لم يصبح متعدد الأقطاب بعد. نحن أمام مرحلة انتقالية حرجة يتراجع فيها مركز القوة الغربي دون أن يستقر البديل الجديد بعد.
الصين وروسيا، كلتاهما تدرك أن بناء نظام بديل ليس مجرد كسر للهيمنة الأمريكية، بل إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية. من هنا تأتي حساسيتهما في التعامل مع الزمن السياسي: فهما لا تريدان إسقاط النظام الغربي فجأة، بل تفريغه من الداخل عبر التمدد في فراغاته وتشكيل مؤسسات موازية له.
ومع ذلك، فإن هذا التوازن الجديد لا يقوم على تحالف أيديولوجي، بل على براغماتية صلبة تعترف بتعدد المصالح لكنها تلتقي عند نقطة مركزية: إنهاء تفرد الغرب بامتلاك حق تعريف “الشرعية الدولية”.
مخاطر المستقبل: بين الحذر والتنافس
التحالف الصيني الروسي ليس بلا توترات. فبينهما تنافس صامت في آسيا الوسطى، وتباين في الرؤية حول بعض الملفات الحساسة. لكن ما يجمعهما أقوى مما يفرّقهما. كلاهما يرى أن بقاء الغرب متفردًا يعني عودتهما إلى الهامش، وأن أي تفكك في شراكتهما سيُعيد النظام الأحادي إلى الحياة.
لذلك يتحرك الطرفان بحذر محسوب، يوازن بين التعاون الاستراتيجي والتنافس الجغرافي، على قاعدة غير مكتوبة مفادها أن “الخصومة المقبولة أفضل من التبعية المفروضة”.
خاتمة: ولادة زمن ما بعد الهيمنة
ما يجري بين بكين وموسكو ليس تحالفًا عابرًا في مواجهة أزمة، بل ولادة محور جديد يعيد تعريف معنى القوة في القرن الحادي والعشرين. الغرب لم يعد قادرًا على احتكار أدوات الشرعية، ولا على فرض إيقاعه على العالم كما كان يفعل.
تعيش الولايات المتحدة وأوروبا اليوم مرحلة ما بعد الهيمنة، حيث لم تعد القوة تعني السيطرة، بل القدرة على الصمود في عالم بلا مركز.
وفي هذا العالم الجديد، لا تتصدر الشعارات الليبرالية ولا التحالفات العسكرية، بل تعود السياسة إلى معناها الأصلي: لعبة المصالح والبقاء.