صعود التكتلات الجديدة: من نظام عالمي إلى شبكة مصالح

العالم لم يعد يعرف مركزًا واحدًا للقرار ولا منظومة قيمٍ قادرة على توجيهه. فبعد ثلاثة عقود من الانفراد الأمريكي بالمشهد الدولي، يتجه النظام العالمي نحو تشظٍّ منظم تُعيد فيه الدول الصاعدة رسم الخريطة على أسس المصلحة لا الإيديولوجيا. لم تعد العولمة الأمريكية قادرة على احتواء الكيانات الجديدة، ولم تعد “المؤسسات الدولية” تعبّر عن التوازن الحقيقي للقوة.

نحن أمام زمنٍ جديد لا تحكمه تحالفات تقليدية، بل تكتلات وظيفية تجمع بين الاقتصاد والسياسة والطاقة والأمن، لتصوغ عالمًا موزّع الأقطاب تحكمه لغة المصالح المتقاطعة لا الولاءات الثابتة.

من “النظام العالمي” إلى “نظام الشبكات”

منذ نهاية الحرب الباردة، كان العالم يعيش في ظل ما يُسمى “النظام العالمي الليبرالي”، وهو بنية صاغتها واشنطن لتثبيت نفوذها المالي والعسكري تحت شعارات الانفتاح والتجارة الحرة. لكن هذا النظام بدأ يفقد معناه مع توسّع الصين وصعود روسيا وبروز قوى إقليمية مستقلة.
لم يعد هناك “مركز” يُصدر القرارات للعالم، بل شبكة متداخلة من الفاعلين الجدد: دول، وتحالفات إقليمية، ومنظمات اقتصادية عابرة للغرب.
تبدّلت الفكرة من “نظامٍ عالمي موحّد” إلى نظامٍ شبكي تتبادل فيه الكتل النفوذ والمصالح دون خضوعٍ لتسلسل هرمي واضح. وهذا التحول ليس فوضى، بل شكل جديد من التنظيم الدولي يعبّر عن توازنٍ واقعي في القوة.

بريكس: الاقتصاد كمنظومة تحرر من الغرب

أبرز هذه التكتلات هو تحالف بريكس الذي تحوّل من منصة اقتصادية رمزية إلى مشروعٍ لتأسيس نظامٍ موازٍ للمنظومة الغربية.
ما يجمع بين دول بريكس ليس الإيديولوجيا، بل رغبة مشتركة في فكّ الارتباط المالي بالدولار وتحرير القرار الاقتصادي من هيمنة المؤسسات الغربية مثل صندوق النقد والبنك الدولي.
لقد أصبح هذا التكتل بمثابة مختبر للعالم المتعدد الأقطاب، حيث تتلاقى مصالح الصين الصناعية مع موارد روسيا، وسوق الهند، وطاقات البرازيل وجنوب إفريقيا، إضافةً إلى انضمام دولٍ جديدة من آسيا وإفريقيا والعالم العربي.
لا أحد في بريكس يسعى لقيادة الآخرين، بل لخلق فضاءٍ متوازنٍ لتبادل المصالح، وهو ما يجعل هذا التكتل أخطر على الهيمنة الأمريكية من أي تحالفٍ عسكري.

منظمة شنغهاي: الأمن خارج المظلّة الأمريكية

في الموازاة، تبرز منظمة شنغهاي للتعاون كإطارٍ أمني وسياسي يرسّخ مفهوم “الأمن غير الغربي”.
فهذه المنظمة التي تجمع الصين وروسيا والهند ودول آسيا الوسطى، توسعت لتضم إيران وباكستان، وهي ترسم بوضوح ملامح نظامٍ أمنيٍّ بديل يرفض مركزية واشنطن في تحديد معنى الاستقرار.
إنها ليست مجرد حلفٍ عسكري، بل تحالف سيادي ضد التدخل الخارجي، يهدف إلى بناء توازن إقليمي يمنع الحروب الهجينة والانقلابات الاقتصادية التي طالما استخدمها الغرب كأدوات نفوذ.
من خلال شنغهاي، تحاول آسيا استعادة حقّها في تعريف أمنها بنفسها، لا عبر عدسات البنتاغون.

الجنوب العالمي: وعيٌ جيوسياسي جديد

التحول الأعمق لا يتمثل في صعود الصين أو روسيا وحدهما، بل في بروز ما يُسمى اليوم بـ“الجنوب العالمي”، وهو كتلة سياسية رمزية تجمع عشرات الدول من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية التي كانت يومًا هامش النظام العالمي.
هذه الدول، التي كانت ضحية الوصاية الاقتصادية والاستعمار المالي، بدأت تدرك أن قوتها في تجمعها لا في انتمائها لأي محور.
إنها لا تريد أن تكون جزءًا من حرب باردة جديدة، بل أن تفرض معادلة تقوم على الندية والتعددية، بحيث تصبح المصالح المتبادلة بديلاً عن الولاء للغرب.
الجنوب العالمي ليس تحالفًا رسميًا، لكنه اتجاهٌ تاريخي نحو فكّ مركزية القوة الغربية، واستعادة التوازن بين الشمال والجنوب بعد قرنٍ من الاختلال.

تحالفات عابرة للإيديولوجيا

الظاهرة اللافتة في هذه المرحلة هي أن التكتلات الجديدة لا تقوم على الانتماء الفكري أو النظم السياسية المتشابهة، بل على المنفعة المتبادلة.
الصين الشيوعية تتعاون مع الهند الديمقراطية، وإيران المحافظة مع البرازيل الليبرالية، وروسيا مع دولٍ إفريقية متناقضة الأيديولوجيات.
لقد انتهى زمن التحالفات العقائدية، وحلّ مكانه زمن البراغماتية العميقة، حيث لا يهم شكل النظام السياسي بقدر ما يهم موقعه في سلاسل الطاقة والتجارة والاتصال.
إن هذا التحوّل يعبّر عن نضجٍ جيوسياسي عالمي؛ فالعالم لم يعد يبحث عن منقذٍ أيديولوجي، بل عن توازنٍ عملي يتيح له البقاء والاستقلال.

الغرب في مواجهة العالم لا في قيادته

في مقابل هذه الشبكات الجديدة، يبدو الغرب في حالة انكفاءٍ وتوتّر. فهو يحاول الدفاع عن “النظام الليبرالي” الذي فقد جذوره، ويستخدم أدوات العقوبات والعزل بدل الحوار والانفتاح.
لكن مشكلته أن العالم لم يعد يستجيب لهذه الأدوات كما في السابق. فكل عقوبة تفرضها واشنطن تُنتج شبكة جديدة من البدائل، وكل محاولة عزلٍ تُعيد تشكيل مسارٍ آخر للتجارة أو التمويل.
إن الغرب لا يزال يملك القوة، لكنه فقد الاحتكار. وما نشهده اليوم ليس سقوطه، بل انكشاف محدوديته.
العالم الجديد لا يعادي الغرب، بل يتجاوزه.

نحو توازن مصالح لا توازن قوى

النظام الدولي الآتي لن يكون نسخة من الحرب الباردة، ولن تحكمه القطبية الثنائية الكلاسيكية. نحن أمام عالمٍ تترابط فيه المصالح بقدر ما تتصارع القوى، حيث تتقاطع المسارات لا لتصطدم، بل لتتوازن.
كل تكتل من هذه التكتلات يسعى لتأمين حدّه الأدنى من السيادة داخل شبكة عالمية معقدة. فالعولمة لم تمت، لكنها تغيّرت: لم تعد “عولمة أمريكية”، بل عولمة موزّعة، تتيح لكل طرف مساحة من التأثير داخل شبكة المصالح الكبرى.
وهذا التحول يحمل في طيّاته وعدًا تاريخيًا بنهاية الوصاية الأحادية وبداية عصرٍ تُكتب فيه العلاقات الدولية بلغة جديدة.

الخاتمة

العالم الذي كان يُدار من قمة واحدة، بات اليوم يتنفس من عدّة رئات. لم تعد السيطرة ممكنة، ولا الانغلاق مجديًا، فالقوة نفسها فقدت معناها حين انفصلت عن العدالة والتكافؤ.
التكتلات الجديدة لا تهدف إلى تدمير النظام القديم، بل إلى تحرير العالم من احتكاره. إنها ليست ثورة على الغرب بقدر ما هي عودة إلى التوازن الطبيعي بعد قرنٍ من الاختلال.
إننا نعيش لحظة انتقالٍ تاريخية تتراجع فيها فكرة “النظام العالمي” لتُولد مكانها فكرة “شبكة العالم”، حيث القوة لا تحتكر، بل تُشارك، وحيث النفوذ لا يُفرض، بل يُتفاوض عليه.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.