المشهد العربي بعد عقدين من الربيع العربي: من الثورة إلى إعادة هندسة الشعوب

بعد عقدين من انطلاق شرارة الربيع العربي، لم يعد المشهد كما كان، ولم تعد الشعوب كما كانت. ما بدا في بدايته زلزالًا سياسيًا يفتح الباب لعصر جديد من الحرية والكرامة، انتهى إلى مرحلة معقدة من إعادة تشكيل الوعي والهوية والسلطة. لم تنتصر الثورات، لكنها لم تُهزم بمعناها الكامل أيضًا؛ بل جرى تحويلها إلى مختبر اجتماعي هائل لإعادة هندسة الشعوب وإعادة ضبط حدود الطموح والإدراك في العالم العربي.

من الثورة إلى الانضباط: كيف استعاد النظام الإقليمي توازنه

الأنظمة التي ترنّحت في بداية العقد لم تسقط جميعها، بل تعلّمت بسرعة من الصدمة الأولى. اكتشفت أنّ المعركة ليست في الشارع، بل في الوعي. لم تعد المواجهة مع خصوم سياسيين فقط، بل مع فكرة التغيير ذاتها.
عبر أدوات إعلامية جديدة، ومناهج تعليمية معدّلة، وموجة ضخمة من التطبيع مع واقع الانكسار، أعادت الأنظمة صياغة مفهوم “الاستقرار” ليصبح مرادفًا للنجاة من الفوضى. وهكذا تحوّل الخوف إلى مشروع سياسي، وصار المواطن الذي طالب بالحرية بالأمس يطلب اليوم الأمان ولو بثمن الصمت.
هذه ليست صدفة، بل عملية إعادة هندسة كاملة استهدفت الوعي الجمعي العربي: ضبط انفعالاته، تشويه ذاكرته، وإقناعه بأن الثورة كانت خطأ تاريخيًا، لا حدثًا تحرريًا.

الإقليم بعد التفكك: صعود الوصاية الإقليمية والدولية

الفراغ الذي تركه انهيار عدد من الدول العربية لم يُملأ بمشاريع وطنية جديدة، بل بـوصايات متشابكة، بعضها إقليمي وبعضها دولي. لم تعد العواصم الكبرى وحدها من يدير المشهد، بل أصبحت المنطقة ساحة لتقاطع وصراعات بين محاور متعددة — من أنقرة إلى طهران، ومن تل أبيب إلى أبوظبي.
كل محور حمل رؤيته الخاصة للمنطقة، لكن الجامع بينها كان واحدًا: منع أي نهضة شعبية مستقبلية قد تهدد بنية النظام الإقليمي الجديد.
لقد تحولت الثورة من خطر سياسي إلى درس أمني، ومن تجربة شعبية إلى ملف استخباراتي طويل الأمد. وهكذا استقرت المنطقة في وضع رمادي لا هو استقرار ولا هو اضطراب، بل إدارة مُحكمة للاحتمال، بحيث تبقى كل دولة تحت السيطرة، دون أن تبدو محتلة.

إعلام ما بعد الثورة: صناعة الوعي الجديد

ما لم تستطع الدبابات تحقيقه، أنجزته الشاشات.
خلال العقدين الماضيين، تطورت أدوات السيطرة الإعلامية لتصبح أكثر ذكاءً وعمقًا. لم تعد تكتفي بالدعاية السياسية المباشرة، بل باتت تنتج سرديات ثقافية ونفسية تُعيد تعريف ما هو ممكن ومشروع ومقبول.
من خلال البرامج الترفيهية، والأخبار الموجّهة، وخطاب “التنمية دون حرية”، تم تفكيك فكرة الشعب بوصفه فاعلًا سياسيًا.
الإعلام العربي اليوم لا يمارس التضليل فقط، بل يصنع بنية شعورية جديدة، تُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة والعالم. إنّها مرحلة “ما بعد الحقيقة” بملامح عربية خالصة، حيث تتراجع الوقائع أمام صناعة الانطباع، وتصبح الطاعة الذاتية هي الغاية النهائية للوعي.

التحولات الجيوسياسية: من صراع الشعوب إلى صراع المحاور

الربيع العربي لم يسقط الأنظمة فقط، بل كشف أيضًا انقسام الخريطة العربية نفسها إلى فضاءات نفوذ متداخلة.
التحالفات التي نشأت بعد 2011 لم تكن لحماية الشعوب، بل لإعادة ضبط الإقليم ضمن موازين جديدة تضمن بقاء النخب الحاكمة وتمنع أي مشروع مستقل.
هكذا تحوّل “الشرق الأوسط” إلى سوق مفتوح للنفوذ الدولي، حيث تتنافس القوى الكبرى على من يضمن أمن الأنظمة أكثر، لا من يحقق إرادة الشعوب.
ومع تفكك مفهوم الدولة الوطنية، أعيد بناء المنطقة على قاعدة جديدة: الأمن مقابل السيادة، بحيث تبقى الدولة مستقرة شكليًا، لكنها فاقدة الإرادة فعليًا.

من الثورة إلى الصمت: نهاية السياسة في الوعي العربي

أخطر ما تركه عقدا الربيع العربي ليس القمع، بل إفراغ السياسة من معناها.
لم يعد المواطن العربي يثق لا بالثورة ولا بالإصلاح، ولا حتى بالخطاب المعارض. نشأ جيل جديد يرى السياسة كعبء، لا كطريق للتغيير، لأن التجربة أثبتت له أن كل حركة تنتهي إما بالفوضى أو بالخذلان.
بهذا المعنى، نجحت إعادة هندسة الشعوب في تحويل المواطن من فاعل إلى متلقٍّ، ومن صاحب حق إلى مراقب يائس.
لكن هذه الحالة ليست نهاية التاريخ العربي، بل ربما مرحلة الكمون التي تسبق الانفجار القادم. فالتاريخ العربي، كما يثبت مرارًا، لا يسير في خط مستقيم، بل في دوائر من الخداع واليقظة.

خاتمة: زمن ما بعد الثورة لم يبدأ بعد

ما نشهده اليوم ليس ما بعد الربيع العربي، بل ما قبل الموجة التالية.
لقد ظنّت القوى الإقليمية والدولية أن بإمكانها إغلاق ملف الوعي، لكن الشعوب التي ذاقت طعم الحرية لا تنسى.
ربما انكسر الشعار، لكن المعنى بقي حيًا. وربما صودرت الساحات، لكن الذاكرة الجمعية لم تُهزم.
حين يُعاد بناء العالم على أسس جديدة، لن يكون للعرب مكان ما لم يعيدوا اكتشاف ذواتهم خارج قوالب الوصاية والإخضاع. الثورة الحقيقية لم تكن في الشوارع، بل في إدراك الشعوب أنّها كانت تُدار لا تُحكم، وتُعاد هندستها لا تطويرها.
وما دام هذا الإدراك لم يُمحَ بعد، فإن الربيع لم يمت، بل ينتظر لحظته الجديدة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.