الشرق الأوسط بين فك الارتباط الأمريكي وصعود المحاور الإقليمية

منذ نهاية الحرب الباردة، كان الشرق الأوسط هو الميدان المفضل للولايات المتحدة لإدارة النظام الدولي عبر أدوات النفوذ والردع والهيمنة الناعمة. لكن المشهد اليوم تغيّر جذريًا: فواشنطن، التي كانت تمسك بخيوط المنطقة كلها، باتت تمارس إدارة الأزمات عن بُعد بدلًا من صناعة التوازن. وبينما تتراجع قبضتها، تملأ الفراغ قوى إقليمية تتنازع على الزعامة، وتعيد رسم خرائط التحالفات وفق مصالحها الخاصة. هذه ليست مجرد مرحلة انتقالية، بل تحوّل بنيوي في موقع الشرق الأوسط داخل معادلة القوة العالمية.

انسحاب لا انسلاخ: التحول الأمريكي من السيطرة إلى الإدارة

فك الارتباط الأمريكي لا يعني خروجًا تامًا من المنطقة، بل إعادة توزيع لأدوات النفوذ. فبعد عقدين من الإنهاك في العراق وأفغانستان، اكتشفت واشنطن أن الهيمنة المباشرة مكلفة وغير مستدامة. لذا انتقلت إلى مرحلة “الإدارة بالوكلاء”:
حلفاء محليون يُكلّفون بحفظ المصالح الأمريكية دون الحاجة لتورط مباشر.
بهذا المعنى، لم تنسحب الولايات المتحدة بقدر ما تحوّلت من قوة فاعلة إلى قوة مُنظِّمة. فهي لا تحكم الشرق الأوسط الآن، لكنها لا تسمح لأحدٍ آخر بحكمه أيضًا.
ومن خلال أدوات مثل السلاح، والعقوبات، وشبكات الاستخبارات، والاتفاقات الأمنية، حافظت على خيوط اللعبة الأساسية دون أن تكون في مركزها.

صعود المحاور: إقليم متعدد الأقطاب

الفراغ النسبي الذي تركته واشنطن لم يُملأ بقوة واحدة، بل بأربعة محاور رئيسية لكلٍّ منها مشروعه وهواجسه:

  • المحور التركي الذي يحاول توسيع نفوذه عبر العمق الجغرافي في شمال سوريا والعراق، وتثبيت موقعه كقوة موازنة في العالم الإسلامي.

  • المحور الإيراني الذي يعيد إنتاج مشروعه العقائدي والسياسي عبر نفوذ شبكي يمتد من طهران إلى بيروت.

  • المحور الإسرائيلي الذي يسعى لتكريس شرعية وجوده عبر التطبيع وتحييد الخطر العربي.

  • المحور الخليجي الذي انتقل من دور المموّل إلى دور الفاعل، محاولًا بناء مظلة توازن جديدة تحفظ مصالحه أمام القوى الإقليمية الكبرى.

هذه المحاور لا تتكامل، بل تتنافر ضمن هندسة دقيقة من الصراع البارد، حيث كل طرف يملأ فراغًا خلقه تراجع الدور الأمريكي.

من وكلاء واشنطن إلى منافسيها

اللافت أنّ بعض هذه القوى، التي بُنيت في الأصل لتكون أدوات للنفوذ الأمريكي، بدأت تتصرّف كقوى مستقلة.
فتركيا – الحليف الأطلسي – باتت تنافس واشنطن في ملفات المتوسط والقوقاز.
والسعودية، التي طالما كانت العمود الأمني للنظام الأمريكي في الخليج، بدأت تمارس سياسة خارجية أكثر استقلالًا، فتفتح خطوطًا مع الصين وروسيا، وتعيد ترتيب أولوياتها بعيدًا عن الصدامات القديمة.
حتى إسرائيل، رغم قربها الاستراتيجي من أمريكا، باتت تتعامل مع ضعف واشنطن كفرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي تحت غطاء "الشراكات الجديدة".
لقد دخل الشرق الأوسط مرحلة التعددية الوظيفية، حيث كل دولة توازن بين القوى الكبرى وتستثمر في تناقضاتها.

التحول في موازين النفوذ العالمي

في خلفية هذا التحول، تدور معركة أوسع: تراجع الغرب وصعود الشرق.
الشرق الأوسط لم يعد مجرد ساحة نفوذ أمريكية، بل أصبح نقطة التقاء لمشاريع صينية وروسية تبحث عن موطئ قدم في قلب النظام العالمي.
الصين، عبر مبادرة “الحزام والطريق”، تحوّل الموانئ والطرق التجارية إلى أدوات نفوذ اقتصادي ناعم.
أما روسيا، فاستثمرت في الفراغ الأمريكي لتعود لاعبًا عسكريًا وسياسيًا من بوابة سوريا، وتقدّم نفسها كضامن توازن بين المتخاصمين.
هذا التزاحم الدولي حوّل المنطقة إلى نقطة اختبار للنظام العالمي الجديد: من يملك النفوذ في الشرق الأوسط، يملك القدرة على التأثير في انتقال القوة عالميًا.

الشرق الأوسط الجديد: إدارة بلا مركز

ما يتشكل اليوم ليس شرقًا أوسطًا “مستقلًا”، بل شرق أوسط موزّع النفوذ، لا مركز له ولا زعامة موحّدة.
فكل محور يملك نفوذًا جزئيًا، وكل توازن هشّ، وكل تسوية مؤقتة.
النتيجة أن المنطقة أصبحت نموذجًا لما يسمّيه البعض “الفوضى المنظمة” — أي نظام غير مستقر لكنه قابل للإدارة.
الولايات المتحدة لم تفقد السيطرة تمامًا، بل حوّلتها إلى سيطرة غير مرئية: نفوذ عبر الأسواق والسلاح والاعتمادية الأمنية، بدل الاحتلال المباشر.
وهذا النمط الجديد يضمن استمرار التبعية دون الحاجة إلى رفع العلم الأمريكي على أي قاعدة جديدة.

خاتمة: ما بعد أمريكا ليس تحررًا

كثيرون يظنون أن انحسار النفوذ الأمريكي يعني انبلاج فجر الاستقلال الإقليمي، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا.
فما بعد أمريكا لا يعني عالمًا حرًا، بل عالمًا متعدد الوصايات.
تراجع واشنطن لا يفتح باب الحرية، بل باب التنافس بين قوى تسعى كلٌّ منها لتوريث موقعها الإمبراطوري.
الشرق الأوسط لا يزال ساحة يُدار فيها الوعي لا القرار، ومهما تغيّر اللاعبون تبقى اللعبة واحدة: من يملك تعريف الأمن يملك تعريف المستقبل.


لكنّ الشعوب، كما أثبتت كل التحولات السابقة، لا تظل هامشًا إلى الأبد. فحين تتكسر مظلات الوصاية الخارجية، سيتحوّل التعدد الإقليمي من تنازع على السلطة إلى بحث جديد عن الذات والسيادة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.